Al-Quds Al-Arabi

أحمد زكي: «زووم إن» للفنان الموهوب والطيب والمتمرد

-

■ لا تــزال هنــاك جوانب مهمة فــي حياة الفنــان الراحل أحمد زكــي، يمكن الحديــث عنهــا باســتفاضة، كونها تتصــل بموهبته وشــخصيته وصفاته وخصاله الإنســاني­ة، فالموهبة مُتفق عليها، ولا مجــال للتشــكيك فيها، فقــد أثبت بــكل البراهــن والأدلة، أنه الممثل الأقدر على تجســيد كل الشــخصيات والأنمــاط، فهو البيه البــواب والرجــل المهــم والصعلــوك والتاجــر الجشــع والملاكــم والُمشــاغب وتاجر المخدرات، إلــى آخر النماذج التــي عبّر عنها في أفلامــه المحفوظة عن ظهر قلــب، كـ«النمر الأســود» و«زوجة رجل مهم» و«مســتر كراتيه» و«الإمبراطور» و«الليلة الموعودة» و«شادر السمك» وغيرها، إضافة إلى أفلام السير الذاتية التي كانت الرهان الصعب والاختبار الحقيقي لقدراته الفنية غير المسبوقة، حيث قدّم شخصيات متناقضة لا وجه للشبه بينها، كجمال عبد الناصر في فيلم «ناصر 56» والســادات في فيلم «أيام السادات» وعبد الحليم حافظ في فيلم «حليم» غير أنه جسّد شخصية الدكتور طه حسين في عمل درامي تلفزيوني فارق من خلال مسلسل «الأيام» للمخرج يحيــى العلمي، وأعطى مثالاً حياً على التقمص والمعايشــ­ة والانصهار الكامل داخل الشخصية.

لذا فالحديث عن قدراته التمثيلية أمر مفروغ منه، بيد أن ما يســتحق القول هو ما لم يعرفــه الجمهور بالقدر الكافي عــن شــخصيته الحقيقيــة، فهــو الفنــان العصبي ســريع الاستثارة والغضب، شديد الغيرة على فنه والُمدقق في كل التفاصيل الكبيرة والصغيرة، وهناك من الشــواهد ما يدل على ذلك، ففــي فيلم «ناصر 56» على ســبيل المثال حدثت بعــض المواقف والأزمات العارضة حــول كيفية تأهيله من الناحيــة الشــكلية، ليكون لائقــاً لياقة كاملــة بالدور، وتم طرح بعــض الُمقترحات في هذا الخصوص، تتعلق بشــكل الأنف والطول والعرض ليحدث التماثل المطلوب بينه وبين شخصية عبد الناصر، وحســب الشهادات، أن أحمد زكي تعامــل بحساســية مُفرطة مع هذه الُمقترحــات، ولم يقتنع بعمــل الرتوش الخاصة بالشــخصية، إلا بعد مشــاورات ومــداولات كثيــرة مــع المخــرج محمــد فاضــل، والماكيير الخاص به، وقبل فــي النهاية بالأمر الواقــع، حرصاً على المســتوى الفني ودرجة الإقناع المراد توفيرها لنجاح الدور والشخصية.

وفي فيلم «أيام الســادات» حدثت أشياء من هذا القبيل وكاد المخــرج محمــد خان أن ينســحب من العمل، بســبب عصبيــة البطل وتدخله فــي غالبية التفاصيــل، وقبل ذلك صمم النجــم إبان تصويــر فيلــم «البيه البــواب» أن يقوم بممارســة دور البواب بشــكل فعلي كبروفة للشــخصية، ليتأكد بنفســه من مصداقية أدائه، فعمد إلى الجلوس على باب العمارة بملابس البواب ليتلقى ردود أفعال السُــكان، ولــم يكتــف بذلك فقط، بل أخــذ في تنظيف سُــلم العمارة بــاذلاً مجهــوداً حقيقياً فــي مهمته، وقد وصــف تصرف أحمد زكي فــي حينه بالجنون الفني، الــدال على اختلافه النفسي والعصبي وارتباطه الشــديد بالتمثيل، كجزء من تكوينه الشخصي.

أمــا نوادره مع صديقــة الحميم محمد خان فكانــت كثيرة، وقد بــدأت مع فيلم «زوجــة رجل مهم» حيث كثرت المشــاجرا­ت بينهما لرغبة البطل أيضاً في الوصول إلى أعلى مســتوى من الأداء، وهو ما تطلب إعادة تصوير بعض المشــاهد عدة مرات، لاســيما مشهد النهايــة الذي أطلــق فيه زكي النار علــى الفنان علــي الغندور والد زوجتــه ميرفت أمين، ثــم أطلــق الرصاصة الأخيرة من مسدســه على نفســه ليموت مُنتحراً، بعد أن فقد كل سُلطاته وساءت حالته النفسية بعد عزلة من الوظيفة الرسمية المرموقة.

وهناك واقعة أخرى تختص بفيلم «الحريف» الذي كان مُرشحاً لبطولته قبل عــادل إمام، حيث طلب منه خان أيضاً بوصفة مخرج الفيلم أن يقوم بقص شــعره، وكان شعرة حينذاك طويلا ومُصففا بطريقة معينــة لم تُعجب المخــرج، فرفض أحمد زكــي تنفيذ أوامر صديقة، لعدم حتمية قص الشــعر من وجهة نظرة، وانتفاء صلتها الجوهرية بمواصفات الشــخصية الدرامية للاعب الكرة الشراب، وقد ترتب على ذلك ســحب الدور منه وإســناده لعــادل إمام الذي قدم صورة البطل الكروي الشــعبي، من دون أن يُجبره المخرج على قص خُصلة واحدة من شعرة.

وهنــاك من الصفــات الإيجابية التــي قرّبت النجم الأســمر من جمهوره ومحبيه، كالبســاطة والتواضع الشديد والكرم الحاتمي، والغريب أن هذه الصفات اتســقت مع طبيعته الفوضوية، وحياته البوهيميــ­ة غير الُمســتقرة بشــكل لافــت، فهو الفنــان الصادق في موهبته وفنه والإنسان المخلص لأصدقائه والمتعاون بشكل كبير. وتُــروى في هــذا الجانب قصــص وحكايات كثيــرة، فالكل أجمع على أن أحمد زكي كان يتمتع بشــخصية ودودة وروح إنســانية عالية، وربما لهذا السبب كان مُسرفاً في كل شــيء، مشــاعره وطيبته وإنفاقه المادي الشديد، دون حســاب أو حذر أو أدنى محاولة للادخار والاقتصاد، فكمــا هو معلوم كان الفنان الراحــل الكبير يقيم بصفة مســتمرة فــي الفنادق الكبــرى لزوم التمتــع بالخدمة الفندقية والراحة والاســترخ­اء، ومع ذلك لم ينعم زكي يومــاً بالهدوء ولم يجافه القلق، كان وسواســاً مؤرقاً بفنه وأدواره ومشروعاته الفنية والإبداعية الكثيرة.

حين تم الاســتغنا­ء عنه في فيلم «الكرنك» وإســناد البطولة لنور الشــريف بعد الاتفاق معــه على أن يكون هــو البطل، أصيب بشــيء مــن الاكتئــاب، وأصر على أن يُلقن من رفضوه درســاً في فــن التمثيل، وقد حدث بالفعل.. فالفنانة سعاد حسني جسدت أمامه البطولة النســائية في أكثر من فيلم ، «شفيقة ومتولي » و«موعد علــى العشــاء» و«الراعــي والنســاء» وآخــر أدوارها التلفزيوني­ــة كانت معه في مسلســل «هــو وهي» غير أن نور الشــريف الــذي حظي بالبطولــة التاريخية في فيلم «الكرنــك» المأخوذ عن رواية نجيــب محفوظ، هو الذي اعترف بكل أريحية بأن أحمد زكي كممثل بتقدير الدرجات يســتحق عشرة من عشــرة، بينما أعطى نور لنفســه بمنتهى الإيثار والتواضع من الدرجات ثمانية من عشــرة، كنــوع من التقديــر لموهبة زميلــه وصديقه ومنافسه القوي.

إشــارات كثيرة تدل على قيمة الفنــان الراحل أحمد زكي الُملقب بالنمر الأســود، كناية عــن التميز والتمكن والقوة المتناهية في الأداء والإتقان، وما عرضناه ليس سوى ملامح فقط من تكوينه أوردناها في هذا السياق لنُســجل بها شــهادة فنية واجبــة في حقــه وتاريخه وإبداعه الُمختلف.

٭

 ??  ?? أحمد زكي
أحمد زكي
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom