Al-Quds Al-Arabi

دبلوماسية الصين الجديدة في الشرق الأوسط

- *

ليست الصين جديدة على الشرق الأوسط، لكن دبلوماسيته­ا الجديدة فــي العالم، المســتندة إلــى فائض القوة الاقتصادية، الذي تتمتع به حاليا، ســتجعل منها لاعبا رئيســيا على مســرح المنطقة، وهو مسرح يكتظ باللاعبــن من الإقليم ومن خارجه. المــرة الأخيرة التي برز فيها نجــم الصين مع المنطقة كانت في خمســينيات وســتينيات القرن الماضي، مع حركة عدم الانحياز، التي كان جمال عبد الناصر رئيس مصــر، وجواهر لال نهرو رئيــس وزراء الهند، وشــو إن لاي رئيس وزراء الصين أهم قادتها. الآن تعود الصــن إلى المنطقة، وقد أصبحت قوة عالمية رئيســية، تمثل أكبر دول العالم سكانا، وأكبر قــوة تجارية، وثاني قــوة اقتصادية، وثالــث أهم قوة عســكرية، وصاحبة أكبر فائض مالي، وتعيش فيها أكبر طبقة وســطى في العالم، بقدراتها الشرائية وتطلعاتها الاستهلاكي­ة.

وفي نظرتنا إلى الدبلوماسـ­ـية الجديــدة للصين في الشرق الأوســط، ســنتجاوز تكرار وصف الموصوف، أو الحديــث عن المعــروف، لنتناول بعــض دلالات تلك الدبلوماسـ­ـية الجديدة، التي تكشفت ملامحها بوضوح بعد زيارة وزير الخارجية الصيني للمنطقة خلال الفترة من 24 إلى 30 مارس/آذار الماضي.

دبلوماسية شاملة متمهلة

النافذة الأولى التي نطل منها على دبلوماسية الصين الجديدة في الشرق الأوسط، تتعلق بحرص الصين على الإعداد الجيد المتمهل، وأن تكون دبلوماســي­تها محايدة ومقبولة من جميع الأطراف. التطــورات الأخيرة، التي تشمل اتفاق التعاون الاســترات­يجي الشامل مع إيران، واتفاقيات التعاون مع الســعودية وتركيــا والإمارات

وقطر وســلطنة عمان والبحرين، تكشف أن هذا النهج المتمهل يتجلى في مظهرين، الأول هو أن الصين اختارت إيران لتكون رأس الرمح لدبلوماســ­يتها الجديدة، بعد أن انخرط الجانبان في مشــاورات جادة، استمرت لمدة خمس ســنوات، امتدت من يناير/كانــون الثاني 2016 وحتى مارس 2021. وتعتبر الاتفاقيات التي وقعها وزير الخارجية الصيني خلال زيارته للمنطقة، بمثابة رسائل واضحة بأن الصــن لا تؤيد الدخول في محاور إقليمية، وأنها تبني علاقاتها على أساس فلسفة براغماتية، تحقق المنافــع المتبادلة. دبلوماســي­ة الولايــات المتحدة تجاه الشرق الأوســط، على العكس من الصين، تقسم المنطقة إلى ثلاثة أقســام رئيســية، الأول هو الــدول الحليفة وتوجد فيه إسرائيل فقط، والثاني هو الشركاء، ويضم دول الخليج العربية والدول الموالية، أما القســم الثالث فيضم الدول والمنظمات غيــر الحكومية التي تنظر إليها الولايات المتحدة نظرة عدائية، ويضم إيران وســوريا وحــزب الله في لبنان، والحوثيين فــي اليمن، وحماس في فلسطين، والحشد الشــعبي في العراق، وتنظيمات «القاعدة» و»داعش». وهذه دبلوماســي­ة من شــأنها أن تشجع قيام المحاور، واستمرار التوتر في المنطقة.

تجنب تأثير الحرب الباردة الجديدة

النافــذة الثانية تتعلــق بمحاولة الصين اســتخدام دبلوماسيته­ا في الشرق الأوسط، لتحييد الآثار السلبية التي يمكــن أن تترتب على الحرب الباردة الجديدة، التي تشــنها الولايات المتحــدة، ضد كل من الصين وروســيا منذ عام 2018. وعلى الرغم مــن رحيل ترامب عن البيت الأبيض، فإن الإدارة الحالية ما تزال تتبنى الرؤية نفسها، وهو مــا اتضح في الخطوط العامة التــي وضعها بايدن لاســتراتي­جية الأمن القومي في مارس الماضي. وتشــمل الحرب الباردة الجديدة سباق التسلح، وتكثيف الوجود العســكري للولايات المتحدة حول الصــن، والعمل على تطويــر تحالف رباعي يضم اســتراليا واليابان والهند، والحروب التجارية والدبلوماس­ية والإعلامية والثقافية، ومحاولة عزل الصين عن العالم، كلما ســنحت الفرصة، كما هو الحــال في حرب مكافحة كوفيــد -19. وردا على الحرب الباردة، فإن السياســة الخارجية للصين تتحرك على خمســة محاور رئيســية، هي العمل على استمرار الحوار مــع الولايات المتحدة، كما ظهر في حوار ألاســكا يومي 18 و19 من الشهر الماضي، وترسيخ قواعد التعاون الشامل مع روسيا، وتعزيز علاقات الصين بدول الجوار، وعلى الأخص دول رابطة آسيان، ومواصلة التعاون مع الاتحــاد الأوروبي، على الرغم مــن الضغوط الأمريكية، وممارسة سياسة خارجية أكثر جرأة في الشرق الأوسط وافريقيا وأمريكا اللاتينية.

وبالنسبة للشرق الأوسط، فإن الاتفاقيات التعاقدية التي وقعتها الصين أخيرا من شــأنها أن تســاعدها على حماية نفســها من الآثار الســلبية، لاحتمــالا­ت امتداد الحــرب الباردة إلى الشــرق الأوســط، بما يهــدد أمن الطاقة وأمن الملاحة البحريــة ومبادرة الحزام والطريق والمصالح التجارية والاســتثم­ارية للصــن في المنطقة. كذلك فــإن الصين وهي تطــور علاقاتها بدول الشــرق الأوســط ذات الأغلبية المســلمة، فإنها ترد بشــكل غير مباشــر على الاتهامات الموجهة ضدها، بأنها تقوم بحملة إبادة جماعية ضد المســلمين في إقليم شينجيانغ المتمتع بالحكم الذاتي في شمال غرب الصين.

ممرات لمبادرة الحزام والطريق

النافــذة الثالثــة التي نطــل منها على دبلوماســي­ة الصين الجديدة في الشــرق الأوســط، تتعلق بســعي الصين إلى تعزيز مبــادرة الحزام والطريق. وقد تناولت مباحثات وزير الخارجية الصيني خلال جولته الشــرق أوســطية، عددا من القضايــا المهمة، منها مســألة إقامة «المحور الأوســط» لربط تركيا والشرق الأوسط بمبادرة الحزام والطريق، وتأمين ممــر لطريق الحرير البري من ســمرقند إلى إيران وتركيا وأوروبا. كمــا ناقش الوزير في الســعودية الإعداد للقمة العربية - الصينية المقبلة، وتنشــيط مباحثات منطقة التجارة الحــرة بين الصين ودول مجلــس التعــاون الخليجي، وتعزيــز العلاقات الاســتثما­رية في مجــالات التكنولوجي­ــا المتقدمة، مثل الجيل الخامس للاتصالات، وأجهــزة الذكاء الصناعي، وتطوير إنتاج أجهزة الكمبيوتر فائقة الســرعة. كما عقد وانغ يي اتفاقا مع الإمــارات، لإقامة مركز لصناعة اللقاح الصيني الذي تنتجه شــركة ســينوفارم، مع العمل على وضع خطة تنموية لمدة 50 عاما تجعل الإمارات واحدا من مراكز مبادرة الحزام والطريق، التي خصصت لها الصين استثمارات تبلغ حوالي تريليون دولار. كذلك فقد انتقلت دبلوماســي­ة الصين الاقتصادية إلــى مرحلة جديدة، تم فيها إبرام اتفاقيات طويلة الأجــل للإمدادات والمبادلات التجارية، منها اتفاق الشــراكة الاســترات­يجية الشاملة مع إيران لمــدة 25 عاما، والاتفاق مع الســعودية لضمان الأولوية في الحصــول على الإمــدادا­ت النفطية لمدة 50 عاما، والاتفاق مع قطر لتأمين الإمدادات من الغاز المســال لمدة 10 ســنوات، واتفاقات التعاون مع تركيا وســلطنة عمان والبحرين. وفي إطار هذه الاتفاقيات فإن مستوى الاعتماد المتبادل بين الصــن ودول المنطقة يدخل مرحلة جديدة. فبالنسبة لإيران تقترب واردات الصين من النفط من مليون برميل يوميا، كمــا تقترب الواردات من النفط الســعودي من مليوني برميل يوميا، وينص الاتفاق مع قطر على اســتيراد 2 مليون طن من الغاز المسال سنويا، اعتبارا من يناير المقبل. وبذلــك فقد أصبحت هذه الدول تســهم بنســبة كبيرة في إمدادات الطاقــة إلى الصين، التي تســتورد أكثر من 12 مليون برميل من النفط يوميا، وحوالي 70 مليون طن من الغاز الطبيعي سنويا. وسوف تســمح هذه الاتفاقيــ­ات طويلة الأجل بإقامــة ترتيبات لتسوية المدفوعات باســتخدام اليوان الصيني، وهو ما يعزز رغبة الصــن في تحويل عملتها إلــى عملة عالمية، تستخدم في تسعير البضائع وتقديم الخدمات المالية.

خطورة رياح التغيير السياسي

وعلى الرغم من طموح الصين إلى إقامة شبكة واسعة من العلاقات المســتقرة والمثمرة على نطــاق العالم وفي أقاليمه الرئيسية مثل، الشرق الأوسط والقرن الافريقي والمحيط الهندي، فإن الاتفاقيات التعاقدية طويلة الأجل مع دول المنطقة يمكن أن تذروها رياح التغيير السياسي، مثلما حــدث لمعاهدة الصداقة والتعاون الاســترات­يجي بــن الاتحاد الســوفييت­ي ومصر في ســبعينيات القرن الماضــي. ومن ثــم فإنه لا يوجــد ضمان حقيقــي لبقاء تلــك الاتفاقيات، نظــرا لأن الأطراف الأخــرى يمكن أن تتعرض لتقلبات سياســية حــادة، أو ضغوط خارجية في أي وقت، تطيــح بهذه الاتفاقيات وتجعلها مجرد حبر على ورق في أرشــيف التاريخ. كما تثير الدبلوماسـ­ـية الجديدة للصين في الشــرق الأوسط إشــكالية علاقتها مع احتياجات التجديد السياســي فــي العالم العربي. ففي الوقت الذي ســتحصل فيه أنظمة متهمة بممارســة الاســتبدا­د ومصــادرة حقوق الإنســان علــى دعم من تلك الدبلوماسـ­ـية، في صورة مشــروعات ومساعدات واســتثمار­ات متنوعة، فإن الولايات المتحدة ستمارس ضغوطا من باب العمل على تعزيز القيم الديمقراطي­ة في المنطقة، وهو ما يمكن أن يســاعد على إذكاء التوتر وعدم الاستقرار السياسي. وتقدم الأحداث الجارية في ميانمار منذ الانقلاب العسكري على حكومة أونغ سان سو تشي المدنية، مثالا عمليا لتداعيات الدبلوماسي­ة الصينية على عملية التجديد السياســي في الــدول التي لم تنتقل بعد إلــى الديمقراطي­ة، وتلك التي تمر بمرحلــة انتقال هش. ومع ذلك فإن قدرة الصين على التأثير في مجرى الأحداث سيظل محدودا بعاملين، الأول هو أنها ما تزال لاعبا قليل الخبرة نســبيا في أمور الشــرق الأوســط، والثاني هو أن اللاعبــن الآخرين من خارج المنطقــة مثل، الولايات المتحدة وبريطانيا، أو من داخلها مثل إســرائيل وإيران، يتمتعــون بخبــرة تاريخية فــي التعامل مــع الخرائط السياســية الداخلية في البلدان العربية، ولديهم أدوات أكثر في التأثير في السياسات المحلية.

دبلوماسية الصين المستندة لفائض القوة الاقتصادية، ستجعل منها لاعبا رئيسيا على مسرح المنطقة، المكتظ باللاعبين من الإقليم ومن خارجه

كاتب مصري

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom