Al-Quds Al-Arabi

بلاد المغرب بين الأهواء والأنواء

- *

اختار الصديق حسن بنعدي، وهو أستاذ للفلســفة، عنوان «بلاد المغرب بين الأنــواء والمد» باللغة الفرنســية ترجمة لكتاب نفيس كتبه السياســي والمفكر المغربي عبد الله إبراهيــم، عنوانه الأصلي بالعربية «صمود وســط الإعصار» في الســتينات من القرن الماضي، ونشــره في بداية الســبعيني­ات. والكتاب يــكاد أن يكون مجهولا في المغرب إلاّ فــي دوائر ضيقــة، للعزلة التــي ضُربت على صاحبه. والمؤلَّف غير معروف خارجه بكل تأكيد، ويكتفي بعــض المغاربة لمــن كانــوا يُلمحون إليــه، وإلى صمود صاحبه وســط أعاصير السياســة. بيد أن مــن الكتاب شــيء آخر، وهو صمود بلاد المغرب أمــام ما اعتراها من أنواء وأعاصير، لثلاثة آلاف من الســنين، منذ أن حلّ بها الفنيقيون، وامتزجوا والأهالي في غير اســتعلاء، ثم لما احتلها الرومان عسكريا واســتغلوه­ا اقتصاديا، وبعدئذ

نشر بها العرب الإسلام، وتشربه سكان المغرب وانطبعوا بثقافته وخضعوا لنظام الحكم الســاري في دار الإسلام، لتعرف المنطقة موجة رابعة، ما تزال تجثم عليها مذ حلت جحافل الجنود الفرنسيين، مرفأ سيدي فرج سنة 1830.

بلاد المغرب بدءا، ليست هي بلاد المغرب الأقصى، كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنها الفضاء الفســيح الممتد من برقة إلى ضفاف الأطلســي، ويستنكف صاحب الكتاب تعريف هذا الفضاء، إذ الهند هي الهند، والصين هي الصين، وبلاد المغرب هي بلاد المغرب.

لا بأس في أن نُعرّج على صاحبه، فهو من الرعيل الأول من الوطنيين المغاربة، وهو من مؤسســي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الفرع اليســاري، الذي انشق عن حزب الاســتقلا­ل. وهو أول رئيس حكومة ســنة 1959، باســم الاتحــاد الوطني وتمــت الإطاحة به، فيمــا يُعرّفه بعض المؤرخين بانقلاب أبيض. استثار عبد الله وحكومته غيظ العناصر القريبة من الأوساط الاستعماري­ة النافذة، خاصة أن حرب التحرير الجزائرية كانت على أشــدها، وكان عبد الله إبراهيم قــد جعل وكده المنافحة عــن حرب التحرير الجزائري فــي المحافل الدوليــة. كان عبد اللــه إبراهيم وطنيا حين كانت الوطنية ســبيلا للسجن والنفي، وكان مغاربيــا، رغم الغبش الذي لف هذا الحلم الذي اســتحث الــرواد أثناء حــركات التحرير وتحول إلــى نقع يحجب الرؤية، وكان قوميا حين اقترنت القومية بمشــروع وهَبَّة. وجد ضالته بعد إن أزيح عن الشــأن العــام، في التفكير والكتابة والتدريس، وقد استعصى العمل السياسي وفق الرؤى التي حملها الماهدون مــن حركات التحرير، إلى أن لقي حتفه سنة 2005. يُذكّر مســاره بنحو الأنحاء بمسار صالح بن يوســف في تونس. لا يحصر عبد الله إبراهيم نفســه في انتماء قطري، حين يُشــرّح أعطاب بلاد المغرب في نَفَس خلدوني. يبدأ من ملاحظة لافتة ومؤلمة، وهي أن

بلاد المغرب غنية وســاكنتها فقيرة. ولهذه المفارقة أسباب عميقة. لم تحُــلَّ بلاد المغرب قضايــا جوهرية أربع، وهي مســألة الحكم، والتوزيع العادل للأراضي، ومشكل اللغة، وأخيرا قضية الوحدة.

بقي الحكــم متأرجحا بــن نموذجين، نمــوذج محلي ينعتــه بالديمفوضي­ــة، وهــي كلمــة منحوتة مــن كلمة ديموس الإغريقية أي الشــعب، وفوضية، يعني مصطلح الديموفوضي­ة أساسا انعدام الحكم الفردي، إذ كان الحكم جماعيا في إطــار ما يعرف بالجْماعة، ولكــن هذه النواة الديمقراطي­ة كانت تصطدم ببنية إقطاعية، وكانت تتطور لتصبح، كما في تحليل ابن خلدون، أســرة حاكمة، وتبلغ أحيانا المســتوى الإمبراطور­ي، ثم مــا يلبث أن يدب فيها الوهــن، والعِلة، هــي أن الحكم لم يكن قوميــا قط )كذا(. أما مشــكلة توزيع الأرض، فقد كانت مستحوذَة دوما من إقطاعيــن، أو معمرين، منذ الرومان. أمــا اللغة، فقد كان هناك تمايز ما بين النخبة التي تستعمل لغة الأجنبي، منذ الرومان، والشــعب الذي حافظ على لغته الأصلية. وهو وضع ثقافي لا يهيئ إلى شعور قومي، أو وعي تاريخي، إذ لا تضطلع الثقافة، في ظل الانشطار بين النخبة والشعب، بدور المحفز، وتصبح الثقافة النخبوية «عاملا أساسيا في استئصال جذور الثقافة المغربية، وأداة التسلط الطبقي في المجتمع، وسلاحا ماضيا من أسلحة الاستعمار الجديد». لا يرى عبد الله إبراهيم في العربية لغة نخبوية، لأنها ترتكز على بنية عميقة منذ الفينيقيــ­ن، ولذلك تعرب المغاربة أو الأمازيغ في يسر. ولذلك يقول: «وللعربية جذور عميقة في وجدان المغاربة الديني وضميرهم الأخلاقي، وارتباطاته­م التاريخية عبر التاريخ، فهي لذلك تمثل لحد الســاعة أكثر من لغة بالنســبة إليهم، لأنهــا جزء من هويتهم نفســها كشــعب». المثبطات البنيوية لم تطمــر العبقرية المغربية، ولا الارتباط الوجداني الثاوي في لا وعيهم. صمدت وسط

هذه الأعاصير السياسية والمعوقات الاجتماعية والثقافية البنيوية. لكــن الواقــع لا يرتفع، ولذلك يقــول عبد الله إبراهيم «إن التفكير أســريا أو قطريــا، لا مغربيا انحراف سياسي خطير في تاريخنا. تشــتت وحدة المغرب الكبير كما تشتت الوحدة داخل كل جزء من أجزائه باستمرار، ما جعل ماضينا كلــه مضطربا، وغير مفهوم باعتباره ماضيا قوميا». ثم لينتهــي إلى نتيجة مفجعة، وهي موطن الداء: «أقطار المغرب تجد نفسها في مأزق مملوء قعره بالحروب المفجعة، الواقع منها، أو الذي يقع، وبالمنافسـ­ـات البليدة والعراقيل الُمنْصبَّة في طريق أي سياســة للنماء معقولة، وكل مجهــود جدي بالمجتمع المغربي بشــكل ســريع». لا يُلَخّص محتوى كتاب فكري عميــق في مقال، وغايتي في هذه الإشارة التذكير بما يحمله الكتاب من تحليل ما يزال يحتفظ براهنيته، وبرســالة في ظرفيــة صعبة ودقيقة، تذكــر بالمشــترك، وبالرهان الــذي يجب كســبه. ولعل ترجمة العمل إلى الفرنسية من لدن رجل علم وفعل، عرف الكاتب عن كثب ولازمه، أن تُســهم في التعريف بمحتواه. وأملــي أن تتاح قراءة هذا الكتاب ليس في المغرب الأقصى وحده، بل أن تنتظم لقاءات في تلمسان والجزائر وعنابة والقســنطي­نة وبنزرت وسوســة وطرابلــس وبنغازي ونواكشــط وبوتلمين وغيرها، كي نتذكــر ما يجمعنا في الوقت الذي طغى فيه ما يفرقنا. ويشــفع لصاحب الكتاب ليس عمق فكره وحده، بل انخراطه في استقلال الجزائر، ودفاعه عنها حينما كانت تــرزح تحت احتلال بغيض. لم يكن لعبد الله إبراهيم انتمــاء، في هذا الكتاب إلا للوحدة المغاربية، أو ما يسميه بالبعد القومي الذي ظل صامدا رغم الأعاصير. فهل تُراه يصمد أمــام الأعاصير الهوجاء التي تهب عليه في الآونة الحالية؟

لم تحُلَّ بلاد المغرب قضايا جوهرية أربع، وهي مسألة الحكم، والتوزيع العادل للأراضي، ومشكل اللغة، وأخيرا قضية الوحدة

كاتب مغربي

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom