Al-Quds Al-Arabi

الأردن بين الأساطير الانقلابية والحقائق الثورية

-

■ بتزامن مع دخــول المنطقة العربية منذ عشــر ســنين في حقبة الثورات الاجتماعية، نرى تصاعداً في وتيرة مكائــد البلاط التقليديــ­ة، وكأن المقصود منها إلهاء الشــعوب عن الحالــة الثورية بإرجاعها إلــى ماضٍ يتواصل مع الأزمنة الغابرة التــي كان فيها الحكم الوراثي تحت تسميات شتى )ملك، أمير، سلطان( هو النظام السياسي الأوحد، و«ثورات البلاط» أي الانقلابات داخل السلالة الحاكمة، وجه التغيير )وهم التغيير، بالأحرى( الطاغي.

والحال أن حكايــة «المحاولة الانقلابية» الأخيرة فــي الأردن تندرج في سياق بات مزمناً في المملكة الهاشمية: فبدون الرجوع إلى مشاكل السنوات الأولى لحكم فرع الســالة الهاشــمية الذي ولّاه الاستعمار البريطاني على «إمارة شــرق الأردن» وبدون الرجوع إلى إزاحة الحسين للحسن من ولاية العرش في عام 1999 لإحلال عبد الله محلّه، وذلك قبل وفاة الحسين بثلاثة أســابيع، وإزاحة عبــد الله لحمزة من ولايــة العرش في عــام 2004، فإن «المحاولة الانقلابية» المزعومة الجديدة تأتي بعد إقالة ابنيْ الحســن، علي وفيصل، من مناصبهما العسكرية في عام 2017 في جوّ من إشاعات انقلابية جرى تكذيبها رسمياً، وبعد إقالة اللواء عدنان الجندي من إدارة المخابرات العامة الأردنية قبل عامين في جوّ متجدّد من الإشاعات الانقلابية.

والحقيقة أن أزمات البلاط والحاشــية هذه التي تكاثرت في الســنوات الأخيرة إنما هي، فــي آن واحد، انعكاس للأزمة العميقــة التي تعاني منها البلاد كما والمنطقة بأســرها، وملهاة تصرف الأنظــار عن تلك الأزمة بإيهام الشــعب بأن حلّها يختزله التنافس بين أفراد السلالة الحاكمة بحيث يكون أحدهم مســتعداً للعــب دور الُمنقِذ الذي يدّعي إنقاذ الشــعب بينما لا تعدو مهمته إنقاذ النظام الملكي.

ذلك أن الأردن يعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة للغاية: فإن معدّل النمو الســنوي لنصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي قد بقي على انحدار منذ عام 2005 حتى ناهز 3- بالمئة في ســنوات 2010-2012 )أي أن نسبة الازدياد الســكاني فاقت نســبة التنمية الاقتصادية بما جعل الناتج المحلّي للفرد يتناقص( ثم عاد إلى الصعود ببطء شــديد بحيث لم يعد إلى خط الصفر سوى في عام 2018 ولم يبلغ سوى 0.48 بالمئة في عام 2019، أي أن نصيب الفرد مــن الناتج الإجمالي بقي على حاله بدل أن يتناقص كما في المرحلة السابقة.

وهذه الأرقام المزرية لا يعود سببها إلى ازدياد سكاني فائق، بل إلى بطء شديد في النمو. فلو نظرنا إلى معدّل النمو السنوي للناتج المحلّي الإجمالي في الأردن بأســعار ثابتة وبصرف النظر عن تعداد الســكان، وجدنا أنه لم يتعدّ 3 بالمئة منذ عشــر سنين ســوى في ســنة واحدة )2014( ناهيكم من هبوطه إلى 3- بالمئة في العام المنصرم بســبب الأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيــد-19. والنتيجة الحتمية أن معــدّل البطالة بقي مرتفعاً خــال الأعوام الأخيرة حيــث ناهز 19 بالمئة في عــام 2018، قبل الجائحة، بينما ناهزت بطالة الشباب 40 بالمئة، وهي تتوزع على بطالة الشابّات التي ناهزت نسبتها 63 بالمئة وبطالة الشبّان التي فاقت 34 بالمئة.

ويُقدّر أن نســبة البطالة العامة بلغت 23 بالمئة في العام الماضي مع بلوغ بطالة الشــباب نسبة 50 بالمئة. بكلام آخر فإن ربع القوى العاملة في الأردن ونصف الشــباب المنتمين إلى القــوى العاملة عاطلون عــن العمل وهم من طالبيه، ناهيكم من الذين يئســوا من إيجاد عمل وبالأخص اللواتي يئسنَ، فخرجوا وخرجنَ من دائرة البحث عن عمل للسعي وراء الهجرة أو الانكفاء إلى دائرة العمل المنزلي العائلي. والحال أن نسبة مشاركة السكان في القوى العاملة هي في الأردن من الأكثر انخفاضاً في العالم: كانت 39 بالمئة فقط في عام 2018 )المعدّل العالمي 62 بالمئة( بما في ذلك مشــاركة نسائية كانت دون 15 بالمئة )المعدّل العالمي 48.5 بالمئة(.

ويشكّل هذا الهدر العظيم للطاقة البشرية أحد أسباب تراكم الدَين العام الأردني الذي بلغ مــع الجائحة 90 بالمئة من النــاتج المحلّي، ونصفه ديون خارجيــة. ويكمن ســبب آخر في أن مــا يناهز 28 بالمئة مــن نفقات الدولة الأردنية مخصّصة لمجالات غير إنتاجية بامتياز، قصدنا النفقات العسكرية والأمنية. هذا ويعاني الأردن من انخفاض مســتمر في نسبة الاستثمارا­ت إلى ناتجه المحلّي، بما فيها الاستثمارا­ت الخارجية. وفي كل ذلك يلتقي وضع الأردن بأوضاع ســائر بلدان المنطقة، تلك الأوضاع التي ولّدت الســيرورة الثورية الإقليمية طويلة الأمد التي دخلت الآن في عقدها الثاني.

هذه باختصار أســباب الأزمــة الحقيقية التي تُثقل كاهل شــعب الأردن والتي أخــذت تتجلّى في الســنوات الأخيرة بصعود ملحــوظ للنضالات الاجتماعية، بما في ذلك الحراك الشــعبي لعــام 2018 وإضراب المعلّمين في عام 2019. وما أن تبدأ عوارض الجائحة بالاضمحلال حتى يتواصل صعود النضالات الشعبية غير آبه بأزمات البلاط وصراعات الحاشية.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom