Al-Quds Al-Arabi

الحرب غير المعلنة بين تركيا والإمارات 2 ـ احتمال التهدئة

- * محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

متابعــة لمقــال الأســبوع الماضي حول «الحــرب غير المعلنــة بين تركيا والإمارات»، التــي انطلقت بهدوء مع البدايات الواعــدة للربيع العربي عــام 2011، ثم تفاقمت منذ عام 2015، سأســلط الضوء في هذا المقال على مجالات أخــرى يتنافس فيها البلــدان بقوة المــال والإعلام حينا، وعن طريق الحرب بالوكالــة، وعقد الاتفاقيات والمناورات العســكرية أحيانا أخرى. لقد كان الاصطفــاف الذي ظهر جليا بعد الربيع العربي يشــير إلى معسكرين، واحد يدعم الثورات، وآخر يســعى إلى إجهاضها بقيادة إماراتية. لقد نجح معســكر الثورة المضادة إلى حد كبير في وأد الثورات جميعها إلا الثورة التونســية، حيث مــا زال المحور يحاول جاهدا تخريبها عن طريق المال والإعلام، لكن وعي الشعب التونســي ما زال إلــى الآن صامدا في الحفــاظ على ثورة الياسمين رغم نواقصها.

ظهرت الخلافــات الحادة بــن البلدين في الســنوات الخمس الأخيرة إلى العلن، فقد اتهم وزير الدولة الإماراتي للشــؤون الخارجية أنور قرقاش، الرئيــس التركي، بأنه يحاول أن يحيي الامبراطور­ية العثمانية عن طريق شهوة التوسع، وطالب الدول الأوروبية بالاقتداء بفرنسا والعمل على التصدي لأردوغان، لأن خطره ســيصل إلى الجميع. وزيــر الخارجية محمد بن زايد ذهب أبعــد من ذلك، وراح يعيد تفســير التاريخ ويتهم قوات الدولة العثمانية بنهب ممتلكات مكة المكرمــة، قبل أكثر من قرن. ضاحي خلفان من جهته طالب دول الخليج وشعوبها إلى مقاطعة المنتوجات التركية، كما طالــب بعدم زيارة تركيا التــي وصفها بأنها «دولة قمعية».

أنقرة من طرفها أعلنت أن دولة الإمارات عبارة عن قوة مزعزعة للاســتقرا­ر في المنطقة، بحكم أسلوبها في الحكم. وقال مسؤول تركي كبير: «لدينا وجهة نظر مختلفة اختلافًا جوهرياً عن الإمارات. فهي دولــة مفتونة بالديكتاتو­ريات العسكرية. نحن مختلفون. نحن لدينا ديمقراطية قد تكون غير كاملة، لكن ما زلنا نحتكــم للديمقراطي­ة. فمجرد كوننا كذلك، فإننا نشــكل تهديداً للنموذج الإماراتي. نحن لدينا انتخابات ومعارضة ونظام تنافســي. هل هذا موجود في الخليج؟».

منذ الدقائق الأولى لمحاولة الانقلاب الفاشلة التي قامت

بها وحدات من الجيش التركي فــي منتصف يوليو 2016، أعلنــت قناتا «العربية» و»ســكاي نيــوز» نجاح الانقلاب وراحتا تهللان لنهاية أردوغان، واحتمال قيام حرب أهلية فــي تركيا، بل ذهب أحــد المعلقين في قنــاة «العربية» إلى القول إن «أردوغان فشــل في ترميم العلاقة مع الجيش وما يجري في تركيا هو امتداد للربيع العربي». «ســكاي نيوز» في ليلة محاولة الانقلاب الفاشــلة، نشــرت تغريدة قالت فيها: «مصــدر أمريكي: أردوغان يطلب اللجوء لألمانيا»، إلّا أنها اضطرت لحذف التغريدة عقب اتضاح فشــل محاولة الانقلاب، ما عــّرض القناة لتهمة فقــدان المهنية. أردوغان لم يتأخر طويلا ليتهم الإمــارات بأنها على علم بالانقلاب، وأنها أقامت جسورا من التواصل مع فتح الله غولن، المتهم الرئيســي في القيام بالمحاولة، عن طريــق محمد دحلان. وبدأت القصة تنسج حول استشعار الإمارت بخطر الدولة التركية، والتخطيط لتدبير انقلاب ضد الحكومة الشرعية المنتخبة، مستخدمين محمد دحلان. لقد اتهم وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلــو الإمارات بأنها صرفت نحو ثلاثة مليارات دولار لتمويل حركة فتح الله غولن، من أجل التخطيط للقيام بالانقلاب الفاشــل. وفي ديســمبر 2019 أصدرت تركيا مذكرة توقيف بحق دحلان، بوصفه «مخلب» الإمارات واتهمته بـ»تنظيم محاولة الانقلاب، بالتعاون مع هيكل الدولة الموازي، الذي أقامته منظمة «غولن الإرهابية» كما جــاء في البيان. وفي عام 2020، أصدرت مذكرة اعتقال لدحلان من خلال منظمة البوليس الدولية «إنتربول». لكن الحقيقة أن الحكومة التركية لم تقــدم أدلة ووثائق مقنعة لتدخل مباشر من حكومة أبو ظبي، رغم أن حكومة الإمارات اعتبرت محاولة الانقلاب دليلا آخــر على عزلة أردوغان، ليس فقط في محيطيه الأوروبــي والعربي بل أيضا داخل مؤسسة الجيش.

الأزمة الأخرى التي كانت موضع نزاع حاد بين الإمارات وتركيا هي، أزمة شرق المتوسط التي لا ناقة فيها للإمارات ولا جمــل، بــل تطوعت للاصطفــاف إلى جانــب اليونان وقبــرص وإســرائيل، ربما بــدون دعوة بــل للعمل على إضعاف الموقف التركي. كانت الإمارات عام 2017 عند بداية الأزمة تســتند إلى موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كانت علاقاته مع أردوغان تمر بأزمة كبيرة، بســبب قرار ترامب شراء منظومة صواريخ «إس - 400» الروسية،

رغم اعتراض حلف الناتو، إضافــة إلى أزمة اعتقال القس الأمريكي أندرو برانســون، الذي اتهم بالتجســس وحكم بالسجن لثلاث سنوات. وفي السنة نفسها قامت الإمارات مــع كل من الســعودية والبحرين ومصــر، بفرض حصار على دولة قطــر حليفة تركيا الأولى، مــا دعا أردوغان إلى إقامة قاعدة عسكرية على وجه السرعة، لمجابهة أي تهديد تتعرض له حكومة الشيخ تميم. وردت قطرعلى الموقف بأن اســتثمرت نحو 15 مليار دولار في الاقتصاد التركي، لدعم وتثبيت الليرة التركية، التي تعرضت لاهتزاز شديد.

في عام 2019 اكتشفت كميات كبيرة من الغاز في سواحل المتوســط الشــرقية. فقامت إســرائيل وقبرص واليونان بتوقيع اتفاقية لمد أنابيب غــاز، تربط بين البلدان الثلاثة، وتعبر الــدول الأوروبية بعيدا عن تركيــا. ثم قامت الدول الثــاث بمناورات عســكرية جويــة بمشــاركة الولايات المتحدة، ثــم انضمت مصر إلى المناورات. الإمارات تطوعت بإرســال مجموعة مــن طائــرات أف 16- للمشــاركة في المنــاورة، ثم انضمت فرنســا إلى المنــاورة التي لا تخفي عداءها لأردوغان. اعتبر أردوغان هــذه المناورات تهديدا لتركيا وطموحاتها في غاز شــرق المتوســط. فأرسل عددا من ســفن التنقيب الضخمة لتنقب عن الغاز في المنطقة قيد النزاع، وكانت الطائرات الحربية التركية تحلق في المنطقة لحمايتها، ولإيصال رسالة لا لبس فيها لليونان بأن تركيا لا تقبل التهديد. لقد أثارت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وحكومة الوفــاق الليبية، التي صادق عليها البرلمان التركي، مخــاوف اليونان وقبرص ومصر واعتبرتها لاغية لا قيمة قانونية لها.

هــذا التوتر الــذي كاد أن يخــرج عن الســيطرة ترك أثره علــى دول الاتحــاد الأوروبي حيث عارضتــه ألمانيا وبريطانيا وإســبانيا وإيطاليا، وكانت هذه الدول تخشى أن هذا الضغط ســيدفع أردوغان أكثر إلى أحضان الاتحاد الروســي. إيطاليا مثلا توصلت إلى اتفــاق مع تركيا لبناء شــبكة مواصلات بحرية تربط البحر الأســود بالمتوسط، وصــولا إلى المغرب. الإمــارات من جهتهــا كانت تطمح أن توســع نفوذها في موانئ المتوسط بعد أن حصلت «موانئ دبــي» على حق إدارة ميناء ليماســول فــي قبرص. إلا أن المنافسة في المنطقة لم تســر لصالح الإمارات. كما أن مصر لم تقبل بالاقتراب من الميــاه الإقليمية التركية، ما أدى إلى تحســن ولو طفيف في العلاقات بين البلدين. كما يبدو أن فرنســا واليونان وقبرص وإســرائيل، غيــر معنية كثيرا بدور للإمارات في أزمة شــرق المتوســط، لتسجيل بعض الاختراقــ­ات ضد تركيا ففي النهاية تركيا جار ثابت وقوي، ويملك الإمكانيات الاستراتيج­ية ولا مكان للإمارات في هذه المعادلة.

لا شــك في أن وصول بايــدن إلى البيــت الأبيض قلب كثيرا من المعادلات. فإدارة بايدن بشــكل عام لا تسعى إلى تصعيد الأزمات، بل إلى تبريدها ولا تســعى إلى استخدام القوة المســلحة بل القوة الناعمة. وتحاول الإدارة أن تلغي كثيرا من سياســات ترامب الاعتباطية، القائمة على المزاج الشخصي والانصياع للإملاءات الإسرائيلي­ة وبعض الدول الخليجيــة، وخاصة في المســألة الإيرانية التــي تعتبرها أهم أولوياتهــ­ا. تربط إدارة بايدن السياســات الأمريكية بالمصالح الثابتة من جهة، ومدى احترام حقوق الإنســان في تلك الدول. وقد لقطت دول عربية تلك الإشارات وبدأت تعيد ترتيب أولوياتها. فمصر مثلا تعتبر أزمتها مع إثيوبيا حول ســد النهضة أولوية لا تعلو فوقها أولوية أخرى. وقد تخلت مصر عــن الإمارات في موضوع دعم خليفة حفتر في ليبيا، خاصة أن إدارة بايدن جادة في حل الأزمة ســلميا، وانتقال البلاد نحو الاســتقرا­ر بعد انتخابات 24 ديسمبر المقبل. والســعودي­ة مــن جهتها، عرضت مبــادرة متقدمة لحل الأزمة اليمنية ســلميا، تبدأ بوقف شامل لإطلاق النار وصــولا إلى طاولــة المفاوضات. كما أن الســعودية وقطر أعادتا العلاقة بشكل ســليم، وفتحتا الحدود بينهما، بينما ما زالت علاقة الإمارات بقطر فاتــرة جدا. تركيا من جهتها شــاركت في اجتماع الناتو الأخير وتم اســتقباله­ا بشكل جيد، بــدون الالتفات للموقف الفرنســي الناشــز. حتى العلاقات اليونانية التركية تحســنت أخيــرا وبدا أنها في طريقها إلى الحل.

نحــن الآن أمــام مرحلة جديــدة تلعب فيهــا الولايات المتحدة دورا فاعلا وأساســيا، وما على دولة مثل الإمارات إلا الانصياع والتنفيذ والإقرار بحجمها الحقيقي، بعيدا عن تقمص أدوار أكبر منها بكثير.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom