Al-Quds Al-Arabi

الفن بوصفه طريقا إلى العبودية المختارة

- ٭ كاتب جزائري

■ الفن الحديث ليس من الأساســيا­ت في الحياة العربيــة، ما نعرفه عنــه لا يعدو أكثــر من لوحات أو أعمــال تعرض في متاحــف مغلقــة، لا يرتادها ســوى ندرة من النــاس، لذلك نُصادف باســتمرار عرباً مندهشــن من قراءة خبر، أو مشاهدة نبأ على تلفزيون يفيــد بأن لوحة أو عملاً، قــد بيع في مزاد بملايين الدولارات، لا بد أن يستغرب الناس أمراً مثل ذلك، فالفن في الغرب ليس كما هو الحال عند العرب، ومــن يتورط في ذلك الســوق، ويرضــى بقوانينه فعليه أن يترقب الحلو والمر،ّ قد يكســب ما يعجز عن حسابه، قد يخســر والأســوأ من ذلك قد يصير هو نفسه ســلعة فنية، كما حصل مع بطل «الرجل الذي باع ظهره» المرشح للأوسكار )فئة الأفلام الأجنبية( للمخرجة التونســية كوثر بن هنية، التي جعلت من توحــش مزادات الفن في الغرب مــادة لها وربطتها بالوضع الدامي في سوريا مطلع 2011.

ينطلق سيناريو الفيلم من مشهد البطل سام علي، في القطــار، في صحبة حبيبتــه عبير، وهو يصرخ أمام الراكبين: «نحن في زمن الثورة..» في إشــارة منه إلى أن ثورته إنما ســتكون زواجــه من عبير، الذي تعسر عليه، بحجة فوارقهما الاجتماعية، تلك الجملة ســوف تعرضه إلى ملاحقات بوليسية، يفر من ســوريا إلى لبنــان، للعمل فــي مزرعة دواجن، متردداً على غاليرهات الفن قصد قضم بعض الأكل، مدعيــاً أنه من بــن المدعوين، قبــل أن يلاقي فنانا بلجيكياً اسمه جيفري، يعرض عليه أن يرسم وشماً على ظهره، في صورة تأشــيرة شنغن، وينتقل إلى عرض ظهره في واحد من متاحف بروكسل. لم يتردد ســام في قبول العــرض، مقتنعاً بأنها حيلته الوحيــدة للوصول إلى بلجيكا واســتعادة عبير، التي كانــت قد تزوجت موظفاً في الســفارة السورية هناك. يبدو من الوهلة أن فكرة السيناريو ليست أصلية، بل مقتبســة من قصة حقيقية، عندما قام الفنان البلجيكي ـ المثير للجدل ـ ويم دالفوا برســم وشم على ظهر شــاب سويسري يدعى تيم ستاينر، وشــم يمثل مريم العذراء تعلوها جمجمة، مع ديكور يحيط بهمــا، اقتضى العقد بين الفنان والرجل الذي منح ظهره للرســم، أن يدفع الأول للثاني مبلغا معتبــراً، على أن يبقى تحــت تصرفه، ويرافقه إلى معــارض، والغريب فــي الأمر أن العقــد يقتضي أيضاً فــي حال وفاة تيم ســتاينر أن يسلخ جلد ظهره، كي يظل الوشم في العرض، ذلك ما يحصل في ســوق الفن العالمي ـ الــذي نجهل عنه الكثيــر ـ وذلك مــا تم الاتفاق عليه بين ســام علي والفنان في فيلم «الرجل الذي باع ظهره» لكن ما يحســب للمخرجة بن هنية أنها وضعت فيلمها في سياق عربي، انتقت بطلاً عربياً، مستمداً من بطن ســوريا المشتعلة عام 2011، وبدل أن تغرق في البكائيات عن حال سوريا والسوريين،

ووضع اللاجئين، جعلت من شــخصية سام )الممثل يحيى ميحاني( شــخصية إيجابية، بطــاً حديثاً، يعرض صورة لائقة مخالفة عن ذلك الســواد الذي غالباً ما يُرافق أي حديث عــن المهجرين والنازحين السوريين.

فيلم «الرجل الذي باع ظهره» حيث تلعب مونيكا بيللوتشــي دور )ثريــا(، متوارية خلــف باروكة شقراء، منتحلة لكنة شامية، في أحد الحوارات، لم يخل من المحمول السياســي، رغم أنه تفادى إظهار العنف الذي ســاد ســوريا آنذاك، ولم يســقط في تكرار مشــاهد الموت والفزع، بل إن مشاهد اعتقال واســتنطاق شــخصية ســام مرّت ســريعا، فإنه تضمن إدانة للغــرب، فقبول البطل بأن يتيح ظهره للفنان البلجيكي، إنما الغــرض منه كان الحصول على تأشــيرة شــنغن، ذلك أقصى مــا كان بإمكان الأوروبيين أن يقدمــوه للفارين من الحرب، وحال وصوله إلى بلجيكا ســوف يصير ســلعة، يرضى بالجلوس في متحف وأن يشاهده الناس وهو يدير لهم ظهره، أولئك الأوروبيين لم يكن يهمهم شــيء من حياة العربي، ولا ماضيــه ولا أصله، بل يهمهم أن يظل مثــل )تحفة( للأنظــار، أن يقدم خدمة، أن يكون سبباً للفرجة، ذلك ما ودت بن هنية إيصاله، بأن العربي حــن يرضى بصفقة مع غربي فعليه أن يتخلص من إنســانيته، أن لا يبالــغ في الدفاع عن القيم والمبادئ التي تعلمها في الكتب المدرســية، أن يستســلم إلى ما يُفرض عليه، مقابل أن يعيش، أن يأكل ولا يتســول، بل إنه في منتصف الفيلم سوف يُبــاع إلى جامع تحــف سويســري، ويعرض في فيلاته، لكن لم يكن سام ليفعل ما فعل لولا إخلاصه لمــن يحب، فإن يتحول من بشــر إلــى مجرد تحفة فنية، كان نظير أن يستعيد حبيبته عبير، وقد أفلح فــي النهاية بأن خلصها من زوجهــا الذي ارتبطت به غصباً، وحقق مــا كان يرجوه، والثمن كان جلد ظهره.

هــذا الفيلم الذي ينتقل ـ بسلاســة ـ من مشــهد درامي إلى آخر ســاخر، يســتعيد قضيــة اللاجئين السوريين من منظور غير مسبوق، بينما الآلاف منهم يُغامــرون صوب البحر للوصل إلــى أوروبا، بعض المحظوظين منهم يســافرون في الطائرة مثل ســام، وهؤلاء إن كانوا يضمنون وصولا بدنياً ســالماً إلى وجهتهم، فإنهم يفقدون في الطريق أو حال وصولهم شــيئاً من حريتهم، من شــخصيتهم، من ماضيهم، كما نعرفه في ذلك المشــهد حين يرى ســام أمه، وهو مستلق في ســرير في فندق خمسة نجوم، يحادثها بالســكايب، وقد بتر ساقاها عقب نجاتها من تفجير في سوريا.

إن قضيــة اللاجئين الســوريين كانــت العصب الحســاس الذي لعبت عليه كوثر بن هنية بنجاح، صوّرتهم في شــغفهم بالحياة وبالحب، وأظهرت ما يمكن أن يخســرونه في اندفاعهم نحــو بقاع آمنة. هنــاك جملــة تســتحق أن نتوقف عندهــا نطقتها شــخصية الفنان جيفري في الفيلم: «إذا كان البشر يصعب عليهم السفر عبر الحدود، فإن السلع يسهل عليهــا ذلك» من هنا قرر أن يحول شــخصية ســام إلى ســلعة، فإن كان ما يعيشه الســوريون مأساة إنســانية، لا يحســدهم عليها أحد، فمن المحتمل أن تتحول تلك المأســاة أيضاً إلى مكسب تجاري، مثلما تكسّب جيفري من ظهر سام.

 ??  ??
 ??  ?? مشهد من الفيلم
مشهد من الفيلم
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom