Al-Quds Al-Arabi

الشعر في اليمن بين دعاوى التقليد وسجالات الحرب

- ٭ كاتب مغربي

■ لا يســتقيم الحديث عن الشعر اليمني في العصر الحديث، دون أن نستحضر صورة شاعرين أساسيين، ويمكن أن ننعت كلاً منهما بأنه كان شــاعراً أُمةً، فقد بنى كلاهما المعنى الآخر لعمارة اليمن ثقافياً وجمالياً، وما زال مؤثــراً بحضوره فــي كل الأزمنة، عدا الصورة المشــرقة التي أعطياها لخصوصي الشــعر اليمني في راهن الشعرية العربية: عبدالله البردوني وعبدالعزيز المقالــح. الأول جدد في عمود القصيدة التقليدية وأكسبها مُخيلة استثنائية، لكنه صنع لنفسه أسطورةً شخصيةً بسبب اســتبصارا­ت عماه وتماهي الذائقة العامة معه. أما الثاني فقد جدد في شــعر التفعيلة وارتقى به. ومنذ باكورته الشــعرية «لا بد من صنعاء» (1971( التــي قال عبداللــه البردوني عن صاحبها بأنــه «أراد أن يبدو كبيراً منذ البداية» نذر المقالح نفسه لتجديد روح اليمن شعرياً وثقافياً، وعلى هدي بصيرته الوقادة توهجت هذه الروح في المحافل سنين عدداً. لكن أي رؤيا، وأي حلم، وأي مدىً بقي لهذا الرائي، وقد انهارت الرموز والأساطير، واستحالت مشاتل الروح أنقاضاً؛ بل أي قبر يسع النشيد العظيم ويأسه من الكلمات؟

لكن الأمر يكاد يتحول عند جيل الشعراء الجدد إلى ما يشــبه )الحجاب(؛ ولهذا لم يكفوا منذ تسعينيات القرن العشرين عن كتابة نص شعري في أكثر صوره رفضاً للســائد والمحلي، ونزوعاً نحــو أفق الحداثة والتجريب، نتيجة انفتاحهم على مرجعيات ومؤثرات جديــدة، واتصالهم القريب بالمحيط الشــعري العربي، واستثمارهم لوسائل التواصل الاجتماعي العابرة للحدود، على نحو ساهم في رفع ســقف ما يكتبونه راهناً. ومع ذلك، يمكن للمتتبع أن يلمس تعايش الأشــكال الشــعرية وتجاورها على مستوى الإنتاج والتلقي معاً.

غير أنه بســبب البنية القبلية للمجتمع اليمني، ما زال الشعر يؤدي دوراً خطيراً، يصل إلى حد تماهيه مع متطلبات المخيلة الشعبية، وعرام خطابها الحماســي. ومن جهة، يعيش حالة استقطاب حادة تحت تأثير الحرب وأجــواء الصراع السياســي والأيديولو­جي، مــا ألقى مطالب إضافية على كاهل الشــاعر، وحول القصيدة في أحايين كثيرة إلى منبر خطابي وسجالي يحتشد بالشعارات الجماهيرية.

لكن لا بد من صنعاء الجمال والفن، وإن طالت الحرب

أحمد الفراصي: قصيدة «اليمن السعيد»

تكاد تجمع آراء من يؤرخون للشــعر اليمني، على أن العزلة التي كان يعيشها اليمن بفعل نظام الحكم الإمامي شــمالا، والاحتلال البريطاني جنوبا انعكست سلبا على الشــعر، إذ لم يكن للشعر اليمنى شأن يذكر آنذاك، حيث كان الشعراء منذ مطلع القرن العشرين يقصرون قصائدهم على المدح والرثاء والتهانين والتأريــخ للمواليد والوقائع المهمة، وظل الشــعر حتى أواخر الثلاثينيا­ت صدى لتلك البيئة الراكدة، وما تعكسه من جوانب العزلة والجمود. ونظرا لما أفرزته الحرب العالمية الثانية من وعي على مختلف الأصعدة الفكرية والسياسية والاجتماعي­ة في البلدان العربية؛ إلا أن تأثيرها بقي محدودا في شمال اليمن نظرا لنهج السلطة الإمامية السياسي، الذي آثر العزلة عن العالم. بعكس الشطر الجنوبي، الذي شــهد في أوائل الأربعينيا­ت بوادر نهضة فكرية وأدبية، أسهم في انبثاقها إنشاء الجمعيات الأدبية، وإصدار الصحف، والاقتراب من مصر والســودان، بابتعاث بعض الباحثين إليها، الأمر الذي مَكن من الاطلاع على تجارب الأدباء والشعراء في مختلف الأقطار.

بيد أن الأمر ســرعان مــا تغير في خمســينيات وســتينيات القرن المنصرم، إذ شــكلت الســتينيا­ت منعطفاً مهماً في مســار الشعر اليمني الحديــث، خاصة بعد ثورة ســبتمبر/أيلول 1962 ضــد الحكم الإمامي شــمالا، وثورة أكتوبر/ تشــرين الأول 1964 ضد الاحتــال البريطاني جنوبا، حيث كان للشعراء دورهم الرائد في إذكائهما من خلال ما أذاعوه من قصائد تعرضت للأحداث السياســية والاجتماعي­ة، التي عاصروها وانفعلت بها نفوســهم. وفيها ظهر تأثرهم بحركة الإحياء والبعث التي كانت رائجة في الأقطــار العربية آنذاك، تجلى ذلك فــي عنايتهم بقوة الأسلوب وإحكام النسج وجزالة العبارة وفخامتها، ومعارضاتهم لكثير من القصائد المشهورة للشعراء القدامى، وتركيزهم على استلهام التراث القومي، وتصوير المعاناة على المستوى الفردي والجماعي. ويمثل هذه المرحلة عبدالله البردوني، ومحمد محمود الزبيري، ومحمد عبده غانم،

وزيد الموشــكي، وغيرهم. وفي الفترة نفسها ألقت الرومانسية بظلالها على الشــعر اليمني، إذ كان لوجود عدد من الشــعراء في مصر ولبنان والســودان، الأثــر الواضح في هــذا الاختيار، وفيها حاول الشــعراء الانتقال بالقصيدة مــن التقليدية الصارمة إلــى الانفتاح على قاموس الشــعراء الرومانســ­يين العرب، بوصفه طريقة فــي التعامل مع اللغة وتركيب الجملة الشــعرية، وبناء الصــورة. فأصبحت نصوصهم أكثر قرباً مــن ذواتهم وعواطفهــم الذاتية، في مزيج خــاص بين الوجداني والصوفي. ومن الأســماء البــارزة في هــذا التيار: عبدالعزيز المقالح، وأحمد محمد الشــامى، وإبراهيم الحضراني، ولطفى أمان، والقرشــي عبدالرحيم ســام، وعبدالله سلام ناجي، وحسن اللوزي وعبدالودود ســيف، وزكي بركات ومحمود الحــاج، ومحمد أنعــم، وعبده عثمان، وغيرهم. واســتطاع هؤلاء أن يخطوا للقصيدة الحديثة مسارها الذي أخذ شكلاً متصاعداً، وأفرز في نهاية الستينيات تجريب كتابة قصيدة النثر، ومــن أبرز ممثليهــا: عبدالرحمن فخري. ويمسك الشاعر عبد الله البردوني بالخيط الرومانسي ذاتــه، لكنــه يتجه به منحــى آخر، ويقتــرب به من الواقعيــة، إذا جاز القول، وتبدأ قصائده تتخذ هموم الناس وقضاياهم موضوعات لها، ويبدأ الشاعر نقداً ساخراً للسياسة والمجتمع. وإن كانت القصيدة عنده تظل محافظة على الشــكل التقليدي، مكتفية بتجديد الأفكار والمضامين. وفــي الســبعيني­ات والثمانيني­ات قطع الشــعر اليمني شــوطاً مهماً في ميدان التحديث، حيث أسهم اســتقرار الأوضاع السياســية والاقتصادي­ة في بروز جيل من الشــعراء أكثر نزوعاَ نحو الحداثة والتجريب، واتســاع الأفق وخصوصية العبــارة، وإن كانوا يتجهون مشــارب شتى، ســواء في اســتلهام التراث واستيعاب رمــوزه وتطويعها لخدمة الــرؤى النصية، أو اســتخدام العبــارة الصوفيــة ودلالاتها، أو في محــاكاة التجارب الشــعرية العربية الحداثية. فظهــرت حينئذ قصيدة النثر بشكل أكثر وضوحا واكتمالا، وانتشرت قصيدة التفعيلة انتشــارا واســعا، بالإضافة إلــى محافظة بعض الشعراء على الشــكل التقليدي للقصيدة، مع تنويــع في الرؤى والمضامــن. وكان الثراء الفني في تلك الأشــكال واضحا، نتيجة تطور المفاهيم الشعرية ونشــاط الحركة النقدية الموازية، الأمــر الذي جعل نتاج تلك المرحلة أكثر قربا من تجليات الحداثة الشعرية في مختلف الأقطار.

ويمثل هــذا الجيل كل من: إســماعيل الوريث، محمد حســن هيثم، شوقي شفيق، عبد الكريم الرازحي، وعباس الديلمي، وسعيد البطاطي، وعبد الرحمــن إبراهيم، ونجيب مقبــل، ثم أحمــد العواضي، ومحمد عبدالســام منصور، وغيرهم. وكان لهذه المرحلة تأثيرها الواضح على شعراء التســعيني­ات إلى نهاية القرن العشــرين، وإن كانوا فيها أكثر إقبالا على تبني الجديد، ورفض المألوف من الشــعر، وتجريب مناخات أكثر جدة للصورة والمعنــى نتيجة الانفتاح إلــى مرجعيات ومؤثرات جديدة، خاصة في ما يتصل بقصيــدة النثر والقصيدة المدورة. تنوعت الإصدارات الشــعرية وشملت مختلف أشكال الشــعر قديمه وحديثه، وإن شــاب بعض نماذجها الغموض والإبهام. يمثل هــذه المرحلة عدد من الأســماء مثل: علوان الجيلانــي، علي المقري، هــدى أبلان، محمد المنصور، محمد القعود، نبيلة الزبير، آمنة يوســف، الحارث بن الفضل، أحمد السلامي، عبد الوهاب الحراسي، تلاها أصوات جميل مفرح، علي جاحز، فتحي أبو النصــر، نادية مرعي، عبدالمجيــ­د التركي، وغيرهم. أما مرحلة بداية الألفية الثالثة فهي ذات خصوصية شــعرية تســتلزم دراسة منفردة لرصد تحولاتها، لاســيما وأنها ما تزال في طور التشكل والصيرورة، وتعد بالكثير من الرؤى.

أحمد السلامي: قضايا الراهن الشعري

لا نستطيع النظر إلى راهن الشعر اليمني من زاوية حادة، تهدف فقط إلى استشــراف تحولات فنية كبرى، تفترض حدوث قطيعة مع الماضي. لا نســتطيع قراءة التجربة على هذا النحو، لأن الصورة في اليمن تبقى مؤطرة بتعايش الأشكال الشــعرية وتجاورها، على المنصة وفي منابر النشر، وأيضاً على مســتوى التلقي. قد تبدو ظاهرة التعايش الشعري ســائدة في بلدان عربية أخرى، نظراً لاســتمرار الكتابة داخل الأشكال كلها. لكن التعايش الذي يحدث في اليمن مؤســس على توازي حضور النماذج، التي ترسخت في الواقع وفرضت نفسها. فالبردوني حامل لواء القصيدة الكلاسيكية من حيث شكلها العمودي؛ لا يزال مؤثرا بحضوره العابر للمحلية. لقد تســبب صوته القوي والمختلف في اكتساب قصيدة العمود مرجعية اســتثنائي­ة. الأمر الذي أسهم في عدم غياب هذا الشكل أو تراجعه إلى خانة هامشــية. مع الفارق بالطبع بين استنساخ العمود الشــعري، ونفخ الروح فيــه، من بوابة الحفاظ على الشــكل، وتجربة البردوني الــذي تمرد داخل هذا القالب التقليــدي لكنه خرج بمضمون شعري مغاير. في المقابل هناك قصيدة التفعيلة التي رسخها عبدالعزيز المقالح وآخرون منذ الســبعيني­ات. ولهذا الشكل رصيد متراكم ومدعوم بصدى عربي حاضر في الذاكرة الســمعية، ولا يــزال هناك من يكتبون داخل هذا الشــكل، الذي يطغى عليه تحويل القصيدة إلى أداة لموســقة الــكلام، دون تقديم إضافة تتصل بالرؤية الشــعرية بشــقيها الجمالي والفلسفي.

نأتي إلى قصيدة النثر والكتابة الشــعرية خارج الوزن. وهذا الشكل الأحدث لم يحصل على مســاحة في الخريطة الشعرية اليمنية، إلا بعد مــرور عقود من الزمــن، وليس كما حدث في مشــاهد أخرى. لكن حتى قصيــدة النثر كان عليهــا في النهاية ـ أعني الآن- أن تصل في المشــهد اليمني إلى ما وصلت إليــه قصيدة التفعيلة من تعايش مع العمود، كأن هذا أعلى سقف لدينا:

الاعتراف والاعتراف الآخر

كان على شعر النثر أيضاً مواجهة إشكالية الحضور وسط بيئة ترفل بالغناء والإيقاع. بمعنى أن ما تحقق للنص الشــعري الجديد من اعتراف يندرج ضمــن التعاطي الإكراهي مع شكل لم يعد من الممكن تجاهله. فأصبحت منابر النشر ومنصات الفعاليــا­ت تتعامل مع شــعر النثر بكثافة منذ تســعينيات القرن الماضي. ومع تزايد الشــعراء الشــباب الذين يتعاطون مع قصيــدة النثر، تحقق لها منجز الاشــتراك في ميزة التجاور والتعايش مع الأشكال الســابقة. ليبقى التمايز داخل الأشكال كلها، رهن الاختلاف عن المنجز الســابق والتموضع في المشهد بنبرة جديدة. وهذا ما تحققه بعض الأســماء الشــابة، وإن كانت أزمة التكرار واستنســاخ التشابه تضع أكثر من جيلين أمام رهان أصعب؛ لأن قصيدة النثر مطالبة أكثر من الأشكال القديمة بإنجاز ولادات لانهائية، حتى لا تقع في مأزق الاســتقرا­ر. والآن هناك من يكتبونها في أبهى تجلياتهــا، وهناك من يدور حولهــا بأمزجة غنائية، ولا أنسى من حاولوا العثور على إيقاع للنثر وثقوا به، وظنوا أنه يمثل قاعدة ذهبيــة للقصيدة المكتوبة خارج الوزن لتبرير تراكمهــا على منوال واحد. تجاور الأشــكال الشــعرية في اليمن، له أيضا ما يوازيــه في الواقع العام على المســتويا­ت كافة. نحــن نحكي عن بلد لم يقطع صلتــه بالبنية التقليديــ­ة للمجتمع. إذ لا تزال القبيلة تنتج فنونها، وتلجأ بدورها إلى الشعر، كما لو أنه آلة حربية. من هنا نجد أن القصيدة الشعبية لا تزال حاضرة، بل محمولة على أكتاف ألوان من الأداء الحماسي، ما يجعلها تتســلل إلى عاطفة المجتمع، لتتحول إلى ســاح فني صاخب، يحصر الشــعر الحديث المتعالــي عليها في زاوية اســتهلاك محدود، بحيث لا يضاهي ما تنتجه المخيلة الشعبية.

ختاماً، لا يمكن عزل اليمن كذلــك عن محيطه الجغرافي، البلد المحاط بدول نفطية، لم يســلم بعض شعرائه الشباب من الاستجابة في بعض الســنوات لذلك النمط من الاحتفاء بالشــعر، أعني به ذلك النمط الذي يؤدي إلى توجيه مسار الكتابة الشعرية نحو استعادة أشكال تقليدية. قامت بهذا الدور برامج المســابقا­ت التلفزيوني­ة، التي اتخذت من الشعر موضوعاً لهــا. حتى في اليمن قبل الدخول فــي متاهة الحرب الطويلة، جرى استنســاخ تلك البرامج في الإعلام، وأثــرت في تصور العديد من المواهب الشــابة وفي رؤيتها لماهية الشــعر، حيث تحولت القصيدة في وعي الجمهور وبعض الشــعراء إلى جســر للشــهرة، وجني الجوائز المكرســة لإحياء روح البداوة، لكن الحرب خدمــت القصيدة الجديدة، وأعاقت نمو نظرة شــعبوية كانت قد بدأت تغزو الذائقة وتغري بعض الموهوبين بالاستجابة لها، سعياً وراء نجومية سهلة ومربحة.

أنقذت الحرب راهن الشــعر فــي اليمن، لأنها أيضــاً وضعت الجيل الشاب وجها لوجه أمام وســائل التواصل الاجتماعي العابرة للحدود، وذلك أســهم في دفع من يكتبون الشــعر إلى التماهي مع سقف ما ينشر عربيا. ومن الواضح أن النشــر على شــبكات الإنترنت خدم مجموعة من الأسماء اليمنية الشــابة، التي طورت علاقتها بالشعر وصعدت من جديد، براهن الشــعر إلى نقطة لم نبلغها من قبل إلا في التســعيني­ات، عندما اضطر شــعراء ذلك الجيل إلى خوض معارك مع الأجيال السابقة لفرض تجاربهم. بينما اضطر شــعراء الجيل الأحدث خلال الســنوات الفائتــة إلى خوض معارك مع أنفســهم، من أجل التغلــب على التفكير الشعري التقليدي المغوي، وصولاً إلى استحضار تجاربهم عبر فضاءات الإنترنت، بالتوازي مع غيرهم من الشــعراء العــرب، وإن كانت الجزر المنعزلة لا تزال تحافظ على خصائصها وأشــكالها الشــعرية حتى في العالم الافتراضي. عبد الغني المقرمي

عبد الغني المقرمي: هل هو ارتدادٌ شعري؟

يمكن القول إن المشهد الشــعري في اليمن في لحظته الراهنة يعيش حالة اســتقطاب حادة، فرضتها أجواء الصراع السياسي، الذي تحول في السنوات السبع الأخيرة إلى صراع عسكري مثقل بالتباينات الفكرية والسياسية، الأمر الذي جعل التخندق الفكري والأيديولو­جي حالة شبه حتمية على المثقفين اليمنيين بشــكل عام، والشعراء منهم بوجه أخص. باســتثناء القليل من الشعراء الذين نأوا بأنفسهم عن هذه التجاذبات، وانســحبوا منكفئين على ذواتهــم، ولم يعد لهم صــوت يُذكر. في هذا الإطار، يمكننا قراءة حاضر الشعر اليمني، وتوصيفه نقديا، والوقوف على أهم الحيثيات والمؤثرات التي جعلت منه حِجاجياً بامتياز، ومنبرا خطابيا مزدحما بالشــعارا­ت الجماهيرية، ما جعل المباشرة والتقريرية الســمتين المهيمنتين على لغة القصيدة. ونتيجةً لتســيد هذه الخطابية الموقفية مــع أو ضدا؛ فقد ارتفعت أســهم القصيدة العمودية، ونشــط ســوقها، باعتبارها الإناء الأكثر اتساعا لأســاليب الحِجاج، ولمختلف الشــعارات التي تتطلبها حالة الهتاف والحمــاس الجماهيري. ويأتي هذا الحضور القوي للقصيدة العمودية على حســاب الأشكال الشعرية الحداثية، كقصيدة النثر وما بعدها، حيث صمتت هذه الأشــكال صمتا مريبا، بينما بقيت قصيدة التفعيلة تشــارك على اســتحياء، وبشكل جد محدود. واللافت أن جل شــعراء القصيدة العمودية هم من جيل الشعراء الشباب، كعبد الإله الشميري، ويحيى الحمادي، وزين الضبيبي، وعبدالعزيز الزراعي، ووليد الشواقبة، بينما استأثرت قصيدة التفعيلة بمن يمكن تسميتهم بكهول الشعراء كعبد العزيز المقالح ومحمد عبدالسلام منصور.

وتجدر الإشــارة إلى سببين آخرين عززا من مكانة القصيدة العمودية لدى جيل الشباب؛ يتمثل أولهما في تلك المشــاركا­ت الواســعة التي يخوضها هؤلاء الشعراء في المنافسات والجوائز الشــعرية المحلية والعربية، كجائزة المقالح وجائزة رئيس الجمهوريــ­ة محلياً، أما عربيا فجائزة العويس، وجائزة البابطين، ومســابقة أمير الشــعراء، التي فاز يمنيون بالمركز الأول في دورات ســابقة منها، وكل هذه الجوائز والمنافســ­ات تعلي من شأن النص العمودي على حساب القوالب الشعرية الأخرى.

أما الســبب الثاني فيتمثل في ذلك التأثير الواسع الذي تركه الشاعر الراحل عبدالله البردوني في الشــعر اليمنــي المعاصر، حيث مثّل حالة شعرية فريدة ومتميزة على المستويين اليمني والعربي، واستطاع رغم بقائــه في النمط العمــودي أن يجدد في لغة القصيــدة وفي مضامينها الشعرية، ما جعل اجترار تجربته أو التحليق في فلكها مشتركا فنيا لدى جل الشعراء الشباب إن لم يكن كلهم.

 ??  ?? أحمد الفراصي
أحمد الفراصي
 ??  ?? أحمد السلامي
أحمد السلامي
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom