Al-Quds Al-Arabi

حكايا الطاعون... المؤرخون وأطر كتابة تاريخ الأوبئة

- ٭ كاتب سوري

■ مع قدوم وبــاء كورونــا، كان العالم العربي على موعد مع سلســلة من المقالات والأبحاث حول تاريخ بعض الأوبئة في المدن الإسلامية، وبالأخص مــع الطاعون الذي كتب عنــه العديد من المؤرخين والفقهاء المســلمين، وتطرقوا لآثاره، وما خلفه من وفيات كبيــرة، وكيف تعامل معه النــاس آنذاك، لكــن الملاحظ في هذه الموجــة العربية من الكتابة، أنه سرعان ما بردت همتها، على الرغم من استمرار وبــاء كورونا، الأمر الذي فُســر أحياناً من باب أن المــواد الثقافية والتاريخية، التي تنشــر اليوم في الصحف والمجلات العربية، لــم تعد تعكس هموما ومشــاريع يومية بالضرورة، بقدر مــا باتت تقدم مــادة مطلوبة ورائجة، كما أن هنــاك من ربط ذلك بغياب مدرســة عربية تعنى بتاريخ الأوبئة أو الأمراض، فالدراسات والكتب في هذا السياق نادرة وقليلة قبل الوباء الأخير، مما لا يساعد في تراكم الأبحاث والدراســا­ت، واســتمرار الكتابة في هذا الحقل.

ويلاحظ أيضــاً في مجمل هــذه الكتابات، أنها تعاملت في الأغلب مــع تواريخ الطاعون بوصفها تواريخ من الأرقــام والضحايا الذين ســقطوا في المدن الإســامية، وأن قسما منها أعاد نســخ المعلومات ذاتها التي كتبها مؤرخو تلك الفتــرة، دون أن يعاد النظــر فيها، وهنا بدت وظيفة المــؤرخ أو الباحث، وكأنها تتمثل في جمع ما سُــجل من قصــص وأرقام عن تلك الفتــرة، وربطهــا جميعها في ســياق واحد، بدلاً من محاولة تقســيم موجات الطاعون إلى أكثر من مرحلــة. ولعل من بين الجهود العربية القليلة التي استمرت في تعريف القراء العرب بتواريــخ الأوبئــة، وكيفــة التعامــل مع هذا التاريخ بحذر، هو مشروع كلمة للترجمة، الذي أصدر في فترة قصيرة أربعة كتب عن هذا التاريخ، ضمن مشروع ترجمة سلســلة صادرة عن جامعة أوكسفورد.

وكان آخر هــذه الإصدارات كتــاب «الطاعون» ترجمة محمد زيــاد كبة، ومن تأليف بول ســاك، مؤرخ للتاريــخ الاجتماعي المبكر في أوكســفورد. وخلافــاً لعنوانه الذي قــد يوحي بإعــادة كتابة تاريخ للطاعــون عبــر العالم، كما فعــل عدد من الكتــب، يدعونــا المؤلف لإعادة النظــر في أدوات وأطــر المؤرخين أثنــاء التأريخ لمــرض الطاعون، وكيف تعاملوا مع المصــادر واليوميات التي تركت عنه، وأيــن أخطــأوا أحياناً، وكيف يمكــن كتابة تاريخ جديد حــول الطاعون، ولذلــك يعد إضافة جديــدة للمكتبة العربية، كونــه يتيح للمؤرخين، وحتى للقراء، إعادة النظر في أسلوب تعاطيهم مع أرشيف وتواريخ الطاعون.

يبين ســاك أن الأنموذج الحديــث للطاعون، لا يمكن فرضه على الماضي، ولذلك بات بعض المؤرخين يطبقون تقنيات علم الأحياء الحديثة على الحمض النووي المســتخلص من رفات بشر عثر عليهم في مواقــع، ربما كانــت ذات صلة بأوبئــة قديمة، كما يرى أنه في غياب أدلة مســتقلة عن حجم ووفيات الطاعــون، فإن الكثير يعتمد علــى الأدلة المتوفرة وحسب، بينما الإشكالية أنها أحياناً تعاد أو تنسخ إلى درجة معينة، ولا يعاد اختراعها أو صياغتها من

جديد، كلما ظهر الوباء، فمثلاً يلاحظ في قسم كبير من هذه المراجــع، أن الانطباع الوحيد الذي تعطيه هو أن المدن المصابة بالطاعون كانت بيئة يســيطر عليها الموت فقط، في حين نكتشف مع أواخر القرن السادس عشر أننا أمام مصادر ومنشورات جديدة حول الطاعون كتبها طيف واســع من المؤلفين، من الكرادلــة إلى العمال البســطاء، بالعامية أكثر من اللاتينية، وهذا الانتشــار يعني أن هذه الكتابات هــي وليــدة سياســات الأوروبيــ­ن وغيرهم من الشعوب في السيطرة أو التعامل مع الوباء، وربما مــا يدعم قراءة المؤلــف في هذا الســياق، ما نعثر عليه في يوميات الطاعون، التي دونها تاجر حلبي

في نهاية القرن الثامن عشــر )يوســف الخوري( في ســياق تدوينه ليومياتــه، إذ يؤكد هذا التاجر أن بعض أحيــاء المدينة قد عرفت فــي تلك الفترة إجراءات وقائية جديدة، لم تختبرها ســابقاً، وهو ما مكنه من كتابة هذه اليوميات.

وعلى صعيد الروايــات التي تناولت الطاعون، مثل رواية اليســاندو­ر مانزونــي )1785 ـ 1873) التي تتناول طاعون ميلانو عامي 1629 و1630يؤكد ســاك، أنه علــى الرغم مــن المراجــع التاريخية والبحــوث التي تقــف وراء هــذه الروايات، فإن بعضها كان بعيداً كل البعد عن تمثيل طاعون القرن السابع عشر، وإنما أنتجت في القرن التاسع عشر من قبــل الأذواق الأدبية وجمهور المتعلمين في ذلك الواقع، والذين لجأوا ليوميــات الطاعون كمدخل رمزي للحديث عن قضاياهم ومواقفهم من الإيمان والعقل والحداثة، وليــس بالضرورة لنقل صورة دقيقة عن تلك الفترة.

الطاعون والتحولات الكبرى

وهناك نقطــة أخرى تميز هذا الكتــاب، وتتمثل في محاولة مؤلفه الســير بعكــس بعض القراءات التي تــرى أن الطاعون والأوبئــة قد غيرت مجرى الأحــداث، وأنه من دونها ما تطــورت الأمور بهذه الطريقة؛ ورغم أن المؤلف لا ينفي دور الطاعون مثلاً

في انهيــار امبراطوريا­ت مثل الأزتــك، أو في إيلاء الموت مكانة بارزة فــي حياة الأوروبيين، لكنه يرى أن هذه القــراءة الحتمية تغفل بالمقابل بعض نقاط الضعــف، فالموت الأســود مثلاً لم يفــرض تراجع العبودية، ففي بعض الحــالات، اختفى هذا النظام من دون أي مســاعدة من الطاعون، كما نلاحظ أنه في أواخر القرن السابع عشــر وأوائل الثامن عشر تقلص عدد السكان أيضا، رغم أن الطاعون كان في طريقه نحو الزوال من القــارة الأوروبية، لكن عدد السكان تناقص هذه المرة جراء ارتفاع معدل الوفيات بســبب الأمراض، وتدني نسبة الإنجاب جراء التغير في عادات الزواج، ولذلك يــرى المؤلف أن الطاعون بعد عام 1400 لم يكن وحده العامل التاريخي الذي ســبب التذبذب في أحوال السكان والاقتصاد في أوروبا.

وتتعارض هذه القراءة مع ما جاء به كتاب «الجوائــح» للمــؤرخ كريســتيان ماكملاند، الصادر ضمن سلســلة أوكســفورد والمترجم أيضاً عن مشروع كلمة، الذي بين دور الطاعون في تحســن شــروط الفلاحين، خــال القرن الرابع عشر، كما أتاح لهم تناول وجبات طعام مختلفة، وارتداء أزيــاء الطبقة البورجوازي­ة فــي ظل ارتفــاع أجورهم بســبب نــدرة اليد العاملة مع زيادة وفيات الطاعون، بينما يبدو صاحب مؤلف كتاب «الطاعون» حذرا قليلاً من هذه الاســتنتا­جات، ولذلك يدعونا عوضاً عن ذلك إلى قراءة الســياقات الطويلة، فالجراثيم في رأيه لم تكن العامل الأساســي أحياناً، بل ســرّعت في قــدوم بعض الأحــداث والتغيــرا­ت، وهو أمر نلاحظه اليوم مع وباء كورونا الذي ســرّع وضخم دور وســائل التواصل الاجتماعــ­ي، وتأدية العمل والتدريــس والمقابــا­ت عبر الإنترنــت، بينما لم يتوقع أشــد المتفائلين بالعولمة قبل يوميات العزل المســتمرة أن يحدث ذلــك قبل عقــد أو عقدين من الزمن على أقل تقدير.

 ??  ?? جانب من لوحة «انتصار الموت» لبيتر بروخل الأكبر
جانب من لوحة «انتصار الموت» لبيتر بروخل الأكبر
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom