Al-Quds Al-Arabi

على ما يرام

-

فبعد فشل عشرات الجولات من المفاوضات، شارك بنفسه في جولة، وخرج من الاجتماع بصحبة الرئيس الســوداني المعــزول، ورئيس الوزراء الإثيوبي أيضا المعزول )بشرة خير( ليقول أمام الكاميرات: اطمئنوا. قالها مرتين أو ثلاثاً. ودارت كلمته القصيرة حول إن كل شيء على ما يرام!

ولم تكن هذه المــرة الأولى التي يبيــع لنا فيها الوهم، فعقــب توقيعه على اتفاقية المبادئ، صدر إعلامه بالبنط العريض بعبارة: «السيسي حلها» ووصل الحــال في إحدى صحفه إلى أن يكون «المانشــيت» الخاص بعدد اليوم التالي، المتمدد على ثمانية أعمدة بعرض الصفحة: «يحيا السد»!

وعندما بدأت بعض الأصوات تحذر مما جرى لأن الاتفاقية تمنح موافقة مصر كتابة على بناء السد بدون قيد أو شرط، كان غاضباً وهو يطلب من المصريين ألا يتكلموا في هــذا الموضوع مرة أخرى، ثم يقول لم أضيعكم من قبل لكي أضيعكم الآن. وكانت هذه العبارة «لم أضيعكم من قبل...» سبباً مضاعفاً لقلقي!

عندما شــرعن لقلق المصريين وباعتباره قلقاً أيضاً، كان هذا في اليوم التالي لفشــل المفاوضات، وقد تراجع عن تصريح ســابق يتســم بالحماس؛ حيث أن حصــة مصر التاريخية من مياه النيل خط أحمــر، وأن من يريد أن يرى رد فعل مصر فليجرب، لأن المنطقة كلها ستتأثر بهذا الرد!

والحقيقة لم أفهم المقصود بتأثر المنطقة كلها، ودائما تكون المذكرة التفسيرية لخطابات السيسي المبهمة وعباراته غير المكتملة، عبر اعلامه في الليلة نفسها، والذي يتحرك كله وفق التوجيه المعنوي، ويدار عبر رســائل جهاز سامسونغ، كما تأكد للعالم كله بالصوت والصورة!

فلمــا جن الليل، لم يؤوب إعلامه معه في هذا الخطاب الحربي، فقد ترك أمره للذبــاب الإلكتروني، الذي غنــى «والله زمان يا ســاحي» وانطلقت الدعاوى البلهاء من معسكرنا بضرورة الوقوف خلف السيسي وقد قرر أن يدخل الحرب من أجل الحفاظ على نهر النيل!

وكان تجاهــل إعلامه للخطاب الحربي أحد الأدلــة عندي على أن ما قاله هو تهديد للاســتهلا­ك المحلي ليس أكثر، فضلا عن أننا علمنا منطق السيسي، ولله الحمد! الديهي يفســر ويهدد: بيــد أن المذكرة التفســيري­ة لخطابيه كانت عبر المندوب السامي الإماراتي نشأت الديهي، الذي فسر أمراً مرتبط بخطابه الأول، وآخر خاصــاً بخطابه الثاني! في الخطاب الأول، فســر مقولة تأثر المنطقة برد فعله، فقد تبين أن السيســي لم يقصد إعلان الحرب، لكن كان يســتهدف النوم للعالم بالعرض، فينتوي أن يجنح كما جنحت ســفينة قناة السويس فأوقفت الملاحة. قال نشــأت الديهي، صاحــب، ومدير، ومذيع، قناة «تــن» الإماراتية، لن تتحمل القارة الأوروبية العجوز، مخاطر ســد النهضة، لأنه سيترتب عليه جفاف وعطش مصر والمصريين، مما سينتج عنه هجرة المصريين إلى هذه القارة العجوز، ويسأل والرد معروف: هل تتحمل القارة العجوز مليون لاجئ، بطريقة شــرعية أو بغير شــرعية من المصريين؟ مع ما في هذا الخطاب من تهديد واضح بأن النظام سيفتح الباب لهجرات شرعية أيضاً، إلى هذه القارة العجوز!

ولا يغير من طبيعة الأمر - والحال كذلك - قوله: إننا لا نهدد.. فقط نوضح. فهذا وحده كفيل للتأكيد على أنه تهديد.

بيد أن الخطير في هذا الخطاب الإعلامي المعتمد من قبل الآلهة، هو الاعتراف بأن مخاطر الســد، قد ينتج عنها هجرات ملايين المصريين، مع أن السيســي هو الذي منح الإثيوبيين موافقة مصر كتابة على بناء الســد بدون أن يضمن قطرة مياه واحدة لمصر، من خلال توقيعه على اتفاقية المبادئ.

وإذ بدا السيســي في خطابــه الثاني، يتحدث بنبــرة درويش أمام ضريح ســيدي أحمد البدوي، ويعلن ضعفه وهوانه على الإثيوبيين، ويقول إن النهر يتحرك بإرادة الله، ولا أحد بإمكانه أن يمنع إرادة الله. فقد تدخل نشأت الديهي بمذكرة تفســيرية لما قاله، حيث قام بتذكير «أبــي أحمد» رئيس وزراء إثيوبيا، بأصحاب الفيل، الذين كانوا ينوون هدم الكعبة، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول!

ففي اليوم التالي لفشل المفاوضات، كان السيسي متراجعاً عن خطاب حصة مصر مــن مياه النيل خط أحمر، وإن ذكر في نهايــة جملة طويلة - عريضة في خطابه الأخير أن جميع الخيارات مفتوحة، فقد بدت خارج السياق، بل ومقحمه على ســياق التذلل، والذي ختمه نشأت الديهي، كليم المرحلة، بتذكير المسؤول الإثيوبي بأصحاب الفيل!

وكان واضحاً أن السيسي تخلى عن النيل، يوشك أن يقول مقولة عبد المطلب فــي مواجهة أصحاب الفيل: أما هذا الغنم فهي لــي، وأما البيت فله رب يحميه. وإذا عرفنا أن ما تركه لأصحاب الفيل هو النيل، فلا نعرف الغنم التي له في هذا الصراع مع الإثيوبيين؟!

والحال كذلك، فمن الطبيعي أن نقلق، لكن ســنوات القلق سيعقبها «خريف الغضب»!

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom