Al-Quds Al-Arabi

عن «الإنفوسفير»... والحاجة لفلسفة المعلومات!

- خالد وليد محمود ٭ باحث دكتوراه في العلوم السياسية

نعيش اليوم فــي عصر الثورة الرقميــة الجامحة، ويكفي هنا التدليــل أو التذكيــر أن حوالــي 70 فــي المائة من النــاتج المحلي الإجمالي لأعضاء مجموعة الســبع )أمريكا، وفرنســا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة، وكندا( يعتمد على الســلع ذات الصلة بالمعلومات، أو لنقل أن اقتصاد هذه المجموعة أصبح قائما على المعرفة.

يقــول الفيلســوف الإيطالــي وأســتاذ فلســفة وأخلاقيــا­ت المعلومــا­ت في جامعة «أوكســفورد» لوتـــشيان­و فلوريدي، في كتابه الفلســفيّ المعَـــنوَن بـــ «الثــورة الرابعة» -الــذي يمتطي صهوةَ مفهومِ «الغلاف المعلوماتيّ )إنفوسفير(- أننا في حاجة إلى فلســفة المعلومات بوصفها فلســفة تخــص عصرنا، ويقدّم كتابا يعالج الكيفية التي ندرك بها ذواتنا من خلال التكنولوجي­ا الرقمية، والكيفية التي نُشكّل بها عالمنا.

ثورة تكنولوجيا المعلومات

إنّ كثــرة التقنيات والمعلومات وانتشــاره­ا الواســع والمتمثلة في: «تكنولوجيا النانو، وإنترنت الأشــياء، والويب، والحوسبة الســحابية، وتطبيقــات الهواتــف الذكيــة، والشاشــات التــي تعمل باللمــس، ونظام تحديد المواقع، والطائــرة من دون طيار، والســيارة من دون سائق، ومعدات الحوســبة القابلة للارتداء، ووســائط التواصــل الاجتماعــ­ي، والحــرب الســبيران­ية»...

ستجعل المولع بها، أو الذي يخشاها حدّ الرهاب، يطرح السؤال التالي: ومــاذا بعد؟ وماذا يكمــن وراء كل ذلك؟ وهل من منظور يجمعها في توليفة متناغمة تسدد لنا الطريق وتجعلنا على بيّنة من أمرنا؟

لقد أدخلت ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تعديلات علــى طبيعــة الواقــع المعاش، ومــن ثم علــى مفهومنا لهــا، عبر تحويله إلى إنفوســفير )غلاف/ محيــط معلوماتي( وهذا تعبير جديد ابتـــدِع في الســبعيني­ات؛ يســتند إلى مصطلــح )الغلاف الجوي( وهو مصطلح يشــير إلى المنطقــة المحدودة على كوكبنا التي تسمح بالحياة.

ولنضــرب هنــا مثالا على هــذه الثــورة: ألم يصبح للســيارة والطائرة عشــرات الأنظمــة التكنولوجي­ــة )الاتصــال بالأقمار الاصطناعية، وشاشــة رقمية، ونظام انغلاق المكابح، والأقفال الكهربائيـ­ـة، وأنظمــة الترفيــه، وأجهــزة الاستشــعا­ر...( ألــم تصبــح هواتفنا النقالة ذكية وتتعامــل مع كم هائل من البيانات بطريقــة مذهلــة وتعالجها بســرعة فائقة في عالــم انهارت فيه الحدود الفاصلة بين: الحياة المتصلة بالشــبكة العنكبوتية وغير متصل بها، وأصبحنا محاطــن بأجهزة ذكية غاية في الترابط، ومندمجين في هذا الغلاف وهو الـــ )إنفوسفير(.

هنا نتســاءل أيضــا، ألــم تصبــح الآلات تقوم بأغلــب المهام اليوميــة، بداية من تنظيــم المنزل، وتنفيذ الطلبــات المختلفة عبر الأوامــر الصوتية والإيمــاء­ات، وحتــى تأدية الوظيفــة، وليس انتهــاء بتنفيذ عدد كبير من المهام في وقــت واحد وبدقة عالية، مثل الســيارات ذاتية القيــادة، والروبوتات القــادرة على تأدية

مهام المذيعين، والطائرات بلا طيار...؟!

من منّا اليوم يســتطيع إنكار حقيقة اســتخدام الخوارزميا­ت لتحليــل البيانات المنشــورة على «السوشــيال ميديا» لدراســة الأفــكار والأذواق والتوجهات والاتجاهات الفكرية والنفســية، والمشــكلا­ت والأوضاع والحــركات الاجتماعيـ­ـة والاقتصادي­ة والسياســي­ة للإنســاني­ة، فضــا عــن الاختيــار­ات والعلاقات، مــن منّــا لا يســتخدم برنامــج «غوغل مــاب» الــذي يعتمد على خوارزميــا­ت لاقتــراح الطرق والمســافا­ت الأكثــر ملاءمة وتتيح معرفة مواقــع الرادارات، وتحذر الســائقين من زيادة الســرعة لتفــادي المخالفــا­ت المرورية... هذا ناهيكم عن عشــرات البرامج التي تعتمد على تقنية الذكاء الاصطناعي دون أي تدخل بشري!

تكنولوجيا المعلومات... ثورة هائلة

نعــم، لقد أحدثــت تكنولوجيــ­ا المعلومات يا رعاكــم الله ثورة هائلــة فــي كل مفصــل مــن مفاصــل حياتنــا المهنيــة والعملية والعلميــة والصحيــة والترفيهيـ­ـة والخدميــة والاقتصادي­ة … نشــعر بتأثيراتها في ثقافتنا وســلوكنا ونمط غذائنا وعلاقاتنا وخصوصيتنا التي باتت مكشوفة لا بل مسلوبة، حيث يستطيع أحدنا وهو في مكتبه أو غرفة نومه أو سيارته من إنهاء معاملاته مكان شــغله أو في البنك والمؤسسة والسوق، وأن يضارب في الأســهم والسندات وشــراء ما يلزمه والتواصل مع أي شخص في هذا العالم بكبسة زر.

هل يســتطيع أحدنا أن يستغني عن هاتفه الذكي الذي يحمله

في جيبه ويتضمن عشرات التطبيقات والوسائل وكما هائلا من المعلومات والبيانات التي باتت ترشدنا إلى وجهتنا وتصحح لنا أخطاءنا وتعلّمنا ما نجهله وتحيطنا بأحداث العالم السياســية والاقتصادي­ة والعلمية وغيرها؟

هل يســتطيع أحدنا الاستغناء عن شبكة الإنترنت وهي تقدم لنا ما نريده ونطلبه في ذات اللحظة، ألم يعد الابتعاد عنها توقفا عن الحياة؟

إن الثــورة الرقميــة الجامحــة التي نعيشــها اليــوم هي أحد إرهاصــات الثورة الصناعية الرابعة، بما تحمله إلينا من تغيرات معرفيــة وتكنولوجيـ­ـة مذهلــة تقوم علــى الــذكاء الاصطناعي بمختلف تطبيقاتــه وأطيافه في كل جوانب الحياة الإنســاني­ة، وتبدو أشبه ما تكون بانقلاب جذري قائم على أساس «التخمة» المعلوماتي­ــة والاتصالات­يــة الضخمة وإنترنت الأشــياء والقدرة الهائلــة علــى معالجــة البيانــات وربــط العالم بعضــه ببعض، بمــا يدلل على أن البشــرية في مرحلة انتقاليــة، لا تزال غامضة وتحتــاج إلــى صياغــة فلســفية جديدة وجــادة لبناء أسســها الصلبــة التي تقــوم وراءها وتبحــث لها عن منطوقهــا الداخلي الكامن في المحيط المعلوماتي ) الإنفوسفير( الذي أصبح يشكل تصوراتنــا وإلى حد ما قناعاتنــا، وليبقى الســؤال معلقا: ماذا بعد، ومن نحن وإلى أين نحن ذاهبون وماذا سنصبح ومن الذي يمكن أن نكونــه عندما يتزايد ما نقضيه من وقتنا في هذا العالم المتخم معلوماتيا والمضطرد بياناتيا؟

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom