Al-Quds Al-Arabi

الصين وإدارة جديدة للعالم

- *كاتب مصري

تســوق الصين برنامجاَ مــن 5 مبادئ مثالية للعالــم، خاصة بين الدول النامية. وفقا لهذه المبادئ فــإن الصين تبحث عن إدارة جديدة للعالــم، تقوم فيه الدول الناميــة بدور مهم في الحفاظ على الســام والأمــن العالمي، حتــى لا تصبح الكرة الأرضية ســاحة للاعب واحد قوي مســيطر علــى مقدراتها. وعندما تحدث أزمــات دولية كبرى، ترفع الصين الشــعارات في وجه المتحدثــن، ومنها ضرورة أن تكون العلاقات الدولية قائمــة على العــدل والإنصاف وحســن الجوار والمســتقب­ل المشترك.

وعندمــا قامت الثورات العربية، وقفــت الصين عند مفترق الطرق، فهي من ناحية لا تستطيع أن تسير عكس تيار موجات المد الثــوري، التي أطاحت بالأنظمة العتيقة، التي كانت تحمي مصالحها، وفي الوقت نفســه لا يمكن أن تصطف مع الثائرين والأنظمة التــي تمثلها، لهــذا كان موقفها متضاربــا، فعندما تتحــدث عما يجري في مصر من مظاهرات، تعلن على لســان مســؤوليها، أن الشــعوب حرة في اختياراتها، وتدعو الدول الأخرى إلى عــدم التدخل في شــؤون هذه الــدول، طالما أن النظام الجديد، لا يتعارض مع مصالحها. وحينما تريد حماية نظام قائم والشعب ثائر عليه، ترفع «الفيتو» في الأمم المتحدة وتطالب بالحفــاظ على ذاك النظــام، وتعتبــر أن الجماهير الرافضة لوجــوده، مغرر بهــا أو واقعة تحــت تأثير الإعلام والدعم الغربي.

ظهرت الصــن متأرجحة في مواقفها على مدى الســنوات الخمس الأولــي للربيع العربي، ففي القاهــرة، فتحت قنوات اتصال مع الإخوان المسلمين والســلفيي­ن والأحزاب اليسارية مثل، التجمع والكرامة والشيوعي المصري والأحزاب الليبرالية مثل الوفد، والمصري الديمقراطي، في الوقت نفسه دعمت بشدة المجلس العســكري. وحاولت فتح قنــوات اتصال مع الأجهزة العسكرية والأمنية، وهي ما كانت تفتقده بشدة، إلى أن عرفت

سبلها عبر بوابات المشروعات الاقتصادية، وسمحت لأول مرة لبنوكها بأن تقدم لمصر بالمليــار­ات ودائع بلا فوائد، وقروضا عاجلة، ومنحــا مالية لا ترد. وفي ســوريا عارضــت الثورة الشــعبية ضد نظام الأسد، واعتبرت ذلك خروجا على الدولة، وحرصت على حماية بشارالأســ­د بالوسائل الدبلوماسي­ة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وســاندته بــكل الطرق المادية. وبينما قطعت الأنظمة العربية علاقاتها بنظام الأسد، بقرار من الجامعة العربية، أرســلت الصين السفراء من أصدقائنا الذين عملوا من قبل في مصر ومنهم السفراء تشي تشيان جي وفونغ فيــاو ووان كيه جيان الذي انتقل إلــى لبنان لمدة طويلة. ولم تكــن الصين تهاجم ما يحدث في اليمــن، والمغرب، بينما تلمح إلى خطورة الثورات على مقدرات الشعوب. مع زيادة الفوران السياســي دعت إلى عدة مؤتمرات دوليــة تحت رعاية وزارة الخارجية والحزب الشــيوعي الصيني والجامعــة العربية، وغيرها من التنظيمات السياســية التي ترتبط الصين عبرها بالعالم العربي والافريقي، والدول النامية في محاولة لفهم ثم لكبح جماح هذه الثورات.

وظفت الصين أذرعها السياســية الجديدة التي جاءت عبر الجامعات وأجهــزة الإعلام، بعقد مؤتمرين كبيرين في جامعة بكين عامــي 2012 و2013 لدراســة الربيع العربــي. في العام الأول الذي شــاركت فيه ببحث عــن أزمة الهويــة في بلدان الربيــع العربي، كان الصينيون يطلقــون على ما يحدث بأنه «انتفاضــة» وفي العام التالي وجدت تغييرا في الألفاظ، حيث قالوا لا يمكن لنا أن نسمي هذه بـ »ثورات أو انتفاضات » ولكنها «هبات» في الدول العربية. كانت التسميات تتغير وفق الحالة التي أصبحت علاقتها بتلك الــدول. ففي المؤتمر الأول وجدت حضورا كثيفا من قادة العالم، وعلى رأســهم توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، ووزراء وقادة من الحزب الشيوعي، الذي يدير كل المؤسســات العملية والرسمية في الدولة. وظهر جليا رغبتهم في دراسة الثورات عن كثب عبر دعوتي وغيري من الحضور إلى الجامعات الأخرى ومعاهد سياسية، أنشئت حديثــا تابعة لمجلس الدولة الصيني )مجلــس الوزراء( التي تبــن أن كثيــرا منها ما هــي إلا واجهة للمخابــرا­ت الصينية العتيقة. وفي العام التالي تبدل الحال تدريجيا عندما ناقشــنا مســتقبل هذه الثورات. وفــرح المســؤولو­ن بالعرض الذي قدمته في 2012، متوقعا بأن تســتمر أزمــات الثورات العربية لفقدانها لمشروع الهوية السياسية، فلا هي إسلامية ولا مدنية، بالإضافة إلى عدم التفاف الثوار حول قيادة موحدة لإدارتها. وفي العام التالي أصروا علــى دعوتي للحضور، بعدما قدمت دراسة تنبأت فيها بفشــل ذريع لتلك الثورات، بعد أن تحالف الإسلاميون مع العسكريين من أجل اقتسام السلطة والمصالح، على حســاب التيارات المدنية والليبرالي­ة، التي قادت حركات التغيير في الشــارع العربــي. وضعنا الصينيــون في قائمة الخبــراء الأولى بالرعايــة، ولهذه قصة أخرى ســنرويها في حينها لارتباطها بقضايا أمنية كبيرة.

اســتغلت الصــن وجودها المكثــف بين الخبــراء ورجال الأعمال العرب الذين اســتضافته­م بســخاء، في تلك الفترة، لفهم التحولات الجذرية، التي شــهدتها ثورات الربيع العربي. فوجئنــا بــأن الصين بدلا مــن أن تعمــل على دعــم عمليات التغييــر، لشــعوب اتخذت من نجــاح الشــعب الصيني في التحول السياســي والاقتصادي، عبر العقود الثلاثة السابقة لتلــك الثورات، نموذجا يحتذى، بأنهــا تنصرف تدريجيا عن السياسيين، وتعود أدراجها إلى الارتباط الوثيق بالأنظمة التي التفت حول الثورات، وأعادتها للخلف. وظفت الصين قدراتها المالية في دعم الأنظمة الجديدة، واســتغلت وسائل التواصل الاجتماعــ­ي المحظورة على شــعبها في الداخل، في تحســن صورة الصــن سياســيا، والدعاية للمنتجــات والتحالفات الاقتصاديـ­ـة في الخارج. زاد الأمر عــداءً للثورات،عندما جاء الرئيس الحالي شي جين بينغ للسلطة، عام 2013، فهو خريج المدرسة التقليدية للحكم في الصين، ويعد نفسه امتدادا للزعيم التاريخي ماو تســي تونغ. وضع الرئيس شــي استراتيجية جديدة للصين، تحارب وســائل التغيير الشعبي، واعتبر من

يدعو إليها، إما مواليا للغرب، أو يعمل لحســابه، وأصبح هذا المبدأ وسيلة للهجوم على أية تحركات شعبية، سواءً وقعت في الدول العربية أو في تايلند، أو بعــد ذلك في ميانمار المجاورة لحدودها. وبينما رفعت الصين المخصصات المالية لاســتقدام الباحثــن العرب، خاصة من المصريين الراغبين في اســتكمال دراسات الماجســتي­ر والدكتوراه وتوســعت في إنشاء مراكز البحوث تعليم اللغة وأقسام اللغة الصينية في العالم العربي، اقحمــت العديد منهم فــي علاقات مع قيــادات حزبية ومراكز دراسات مستحدثة، تعمل لحســاب الأجهزة الأمنية، وتوقيع اتفاقيات للتعاون الأمني مع العديد من الدول العربية، لملاحقة المعارضين تحت ستار »التعاون الأمني لمكافحة الإرهاب .»

كشــفت الأحداث المتلاحقــ­ة أن الصين التي بنــت نظامها السياسي عبر ثورة شــعبية بدأت بتشكيل الحزب الشيوعي الصيني عام 1921، وانتهت بدخول الثوار العاصمة بكين مطلع أكتوبر 1949، لا تريد استمرار الحالة الثورية في أي مكان آخر. فقد أصبح لدى الصينيين معتقد بأن الحديث عن الثورات أثناء سقوط الدول الشيوعية وانهيار سور برلين، كان دافعا لشباب الصين للانتفاضة في الميدان الســماوي وسط العاصمة بكين عام 1989. فالصين تخشى من رياح التغيير الثوري، لأنها دولة متعددة القوميات واللغات ورغم حكمها الشــمولي المســيطر على مقدرات البــاد كافة ونحو 1.4 مليار نســمة، فإن الجيل الصاعــد خاصة من الذيــن تلقوا تعليمهم فــي الخارج، يريد المزيد من المشاركة في نظام الحكم وإدارة الدولة. وتطفو هذه الرغبات على السطح من حين للآخر، منذرة بمطالب قد تتحول إلى كابوس لنظام سياســي يمكن أن يتعــرض للانهيار إذا ما شــب يوما تيار ثوري في بلد عاني من عدم الاســتقرا­ر والفقر والمجاعات لفترات زمنية طويلة، ولا يهتم الحزب الشــيوعي حقيقة إلا بتحقيق المزيد من المكاســب الاقتصادية أينما كانت، ومهما كانت شمولية أو فساد الأنظمة التي يتعامل معها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom