Al-Quds Al-Arabi

قرطاج: بورقيبة وفوكو في حضرة ديكارت!

-

■ بعد العاصفة التي أثارتها تصريحات الكاتب غي ســورمان بشأن ميشال فوكو، أجرت مراســلة «جون أفريك» في تونس فريدة الدهماني تحقيقا اســتجوبت فيه عددا من أهالي قرية سيدي بوسعيد ممّن يتذكرون فترة إقامة الفيلسوف هناك، فأجمعوا على أن من غير المحتمل أن تكون اتهامات انتهاك براءة الأطفال صحيحة لأن مكان الجريمة المفترض )المقبرة( محاط برقابة شــبه دائمة منعا لكل ما يمكن أن يدنســه. وتلخصت شــهادة الأهالي في القول إنه لم يكن لفوكو إلا لقاءات خاطفة، تحت صفوف الأشجار المجاورة للمقبرة، مع شبان في سن السابعة عشرة أو الثامنة عشرة.

تدعّم شــهادة الأهالي ثلاثة اعتبارات: أولا، أن ما كان معروفا عن فوكــو عموما هو طلبه للرجال. ثانيا، أن زميلته في قســم الفلســفة الأســتاذة فاطمة حداد، التي استشــهد بها إدوارد سعيد، إنما ذكرت الطلاب الشــبان أو اليافعين، وليس الأطفال. ثالثــا أن جون أفريك نقلت في تحقيقهــا هذا عن الباحــث كريم بوزويتة القــول إن عالم الاجتمــاع دانيــال ديفير أخبره أن ســبب ترحيل فوكــو من تونس هو ارتباطه بعلاقة جنســية مع شــاب في الثامنة عشرة استدرجه البوليس السياسي للاعتراف.

ولا مجال، في رأيي، للتشــكيك في أقوال ديفيــر. لماذا؟ لأنه أعرف الناس بفوكو: فقد اســتمرت علاقتهما الغراميــة طيلة ربع قرن ولم تنته إلا بوفاة فوكو. هذا ما يجيز الاستنتاج بأن استغلال الأطفال لم يكن معلوما، إن حدث. وربما لم يحدث إلا بضع مرات )وكانت إحداها أثناء زيارة سورمان(. أما العلاقة مع الشبان فهي معلومة. ولهذا فإن جون أفريك اقتبســت عنوان تحقيقها من قــول حرفي لأحد الأهالي: «فوكو لم يكن يســتغل الأطفال وإنما كان مفتتنا بالشــبان من ذوي الوسامة والبهاء .»

من ناحية أخرى، أشــارت المجلة إلى أن فوكو كان هدفا للبوليس السياســي. ولهذا كانــت تصرفاته المثليّــة ذريعة ســهلة لترحيله والتخلص منه. أما ســبب اســتهدافه فهو ما ذكرناه الأسبوع الماضي عن دعمه لانتفاضــة الطلاب التي بدأت في مارس 1968 واســتمرت طيلــة العام. ولهــذا فإننا فوجئنا بما ذكره الأســتاذ حســام الدين محمد نقلا عن بعض الكتّاب العرب بشــأن إنكارهم لوجود فوكو في تونس عام 1968 أصلا! ثم فوجئنا بأنهم يشــيدون، رغم ذلك، بدعمه لانتفاضة الطلاب! فكيف يســتقيم الأمران معا؟ وكأن هذا التناقض لا يكفي، فقد زعموا أن هنالك ســعيا للتعتيم و«الإظلام» على دور فوكو في دعم الانتفاضة التونســية. إلا أن الواقع أن هــذا الدعم معروف، حيث أن هنالك شــهادات كثيرة بشــأنه. فقد روى ديديي أريبون في كتابه عن ســيرة فوكو وقائع تتعلق بإيوائــه لبعض الطلاب الذين كانت تطاردهم الشــرطة، وعن تمكينهم من طبع المنشورات في بيته وعن مرافقته بسيارته للطالب الذي كان يوزع المنشورات في مختلف الأحياء الشعبية، إضافة لاســتماتة فوكو في محاولة إنقاذ القيادي المعتقل أحمــد العثماني. ويتطابــق هذا مع ما رواه الأســتاذ فتحي التريكــي بمزيد من التفصيل فــي كتابه الجديــد «الذاكرة والمصير» )الذي لــم نحصل عليه بعد، ولكنا اطلعنا على ما نشــر بشــأنه في الحــوارات والمراجعات الصحافية(. وقد ســبق لــه أن أعلن بعض هــذه التفاصيل في جون أفريك في 19 مــارس 2018. أما الواقعة غير المعروفة التــي رواها التريكي فهي أن بورقيبة قد اســتقبل فوكو في قرطاج )علما أنه كان مواظبا على قراءة «لونوفال أوبسرفاتور» التي كان فوكو من كتّابها( وفي ســياق الحديث طلب منه تدريس فلســفة ديــكارت للطلبة حتى يتعلمــوا قواعد التفكير. وهكــذا تمت إضافة «خطاب المنهــج» و«التأملات» للبرنامج تلبية للطلب الرئاســي. كما استشــهد التريكي بما قاله فوكو لجريدة «لابريس» التونســية عام 1967 مــن أنه لم يحدث له أن التقى في أي البلاد طلبة يضاهون طلبة تونس والبرازيل جديّة وتعطشا مطلقا للمعرفة.

فهل كانــت أقوال ســورمان مجرد بهتان؟ أســتبعد ذلــك تماما. لسببين. أولهما أن فوكو كان ضمن الموقعين على أحد البيانات الثلاثة التي نشرت في فرنسا عام 1977 للمطالبة بالكفّ عن تجريم العلاقات الجنسية بين الكبار وغير البالغين، وبخفض السن القانونية للمارسة المثلية من 18 إلى 15 ســنة. السبب الثاني أن سورمان ذكر أنه لم يكن وحده لّمــا رأى ما روى عن فوكــو والصبيان والنقــود، بل كان معه مثقفون وصحافيون. ولو كان يريد التجنّــي، باعتباره يمينيا )كأن هذا ســبب كاف!( أفلم يكن الأجدى أن يوســع قائمة المتهمين لتشمل رولان بارت وغيره من مشاهير المثليّين الموقّعين على بيانات 1977؟

إن الذين تصــوروا أن ليمينيّة ســورمان دخلا فــي الموضوع قد طوّحوا بعيــدا… ولكن رغم أن فوكو لم يكن يســاريا، مثلما قد يظن هؤلاء، فإن رده على الفيلسوف الشهير هربرت ماركوز قد كان بليغا براديكاليّتــه وعالمثالثيّته. أخذ عليه ماركوز غيابه عن انتفاضة مايو الشهيرة في فرنســا، فأجاب: لقد شاركت في انتفاضة مايو 1968 )لما اندلعت( في مارس 1968 في تونس!

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom