Al-Quds Al-Arabi

موكب رُفَات الملوك القدماء والانتخابا­ت الرئاسية المبكرة!

- ٭ كاتب من مصر

■ تابعت مع المتابعين من بعيد موكب مومياوات ملكات وملوك قدماء المصريين، وكان الموكب لنقل رُفاتِهم من مستقرهم بالمتحف المصري فــي ميدان التحريــر القاهري، إلى مقــر جديد بالمتحف القومي للحضارة المصرية بمدينة الفســطاط؛ غلب المشهد المبهر، والعرض المبهج على كامل المشــهد المكلف، وهو شيء تناقض مع نعت «المشير السيسي» لمصر بالبلد «الفقير قوي»؛ أي شديد الفقر، ولا يدع مناسبة تمر دون النظر للمواطنين بدونية لم يسبقه غيره إليها، ودائما يقول لهم «إنتو يا مصريين» باستخفاف غريب، طلب منهم تفويضين فأعطوه، وحصل على أصواتهم التي أقعدته على كرســي الرئاســة، ولا يعترف لـ«الفقرا قوي» بفضل؛ لم يصفهم يوما بالمواطنــ­ن أو غيره من صفات درج عليهــا قادة يحترمون شعوبهم ودولهم.

وسمح «المشير» لنفسه بصرف الأموال ببذخ على مشروعات أقل جدوى وباهظة التكلفة؛ تجاوزت ما بدده الخديوي إسماعيل، في القرن التاسع عشر، على افتتاح قناة السويس، وعلى إرسال أورطة عســكرية )كتيبة( تشارك في الحرب المكســيكي­ة، تنفيذا لطلــب نابليون الثالــث، وكان افتتاح القناة أســطورا، أبهج به الخديوي وأســعد ضيوفه الأوروبيين، أثريــاء وأميرات وأمراء، وملكات وملوك، مســتثنيا الســلطان العثماني عبــد العزيزمن دعوته للمشــاركة. وانتهى ذلك البذخ نهاية مؤســفة، بســبب الديــون، وفــرض الوصاية علــى المالية المصرية مــن الدولتين العظميــن في ذلك الزمن المملكة المتحدة والجمهورية الفرنســية واخضاعهما لرقابتهما.

ودار الزمــن دورتــه، وعــادت الوصايــة الماليــة مجددا؛ لـ«صنــدوق النقد الدولــي» ولا تختلف مهمته كثيــرا عن مهمة «صندوق الدين» في عصر اسماعيل باشا.

والوضع الحالــي مقلق حيــث ارتفعت مســتويات الديون، ووجود ازدواج في الصــرف بين ميزانية لـ«المشــير» وميزانية أخرى للدولة، الميزانية الأولى يحتفط فيها بحق التصرف منفردا بعيدا عــن الموازنة الرســمية، ومصدرهــا أموال«صندوق تحيا مصر» من تبرعات أثرياء ســيدات ورجال الأعمال، و«الصندوق الســيادي» وموارد من إدمان اقتراض لا يتوقف، وأعباء مترتبة على الســداد، وتجاوز الدين العام درجة الخطــر، وهناك توقع لبلوغ نســبته إلى نحــو 93٪ من إجمالي النــاتج المحلي نهاية السنة المالية 2020/2021 الحالية.

ومع ارتفاع مخاطر الحاجة لتمويــل كبير، والعجز عن تقليل المخاطر القائمة بالفعل، ووجــود مواطن خلل كبرى؛ أدت لوضع مصر رهينــة دائمة لتقلبات الأســواق الماليــة العالمية، مع طول ســنوات الكســاد والأزمات، ثم ما أضافته جائحة كوفيد ـ 19 من آثار اعباء على اقتصاديات العالم القوية، فما البال باقتصاديات ضعيفة ومهلكة ومعطوبة، وذلك وضــع ضغطا مهولا على المالية المصرية العامــة، وتركز جهــد الحكومات المتعاقبــ­ة على إطالة آجال اســتحقاقا­ت الديون، وتعظيم الموارد في المدى المتوســط، بعيدا عن أي إعادة نظر فــي نظام الضرائب الحالي، ووضع نظم ضريبية عادلة متوازنة، تعتمد احتياجات التمويل العاجلة الملحة على الرسوم والجبايات المجحفة، وإعادة تحصيلها على خدمات احتياجات مغطــاة بالضرائــب العامة ومــوارد الحكم المحلي، ويدفعها صاغرا، ووصولها حد السطو على ما تبقى في جيوبه.

ويبدو أن الموكــب الجنائزي المبهر كان بهــدف التغطية على أخطــاء وخطايا وتجاوزات لا يُحَاسَــب عليها أحــد، ومر نجاح هيئة قناة الســويس في تعويم الســفينة البنمية وعودة الملاحة لطبيعتها؛ دون نيل الاهتمام الواجب، وهذا في وقت استعاد فيه الشارع المصري وعيه، ويواجه باســتفزاز زاد عن حده؛ خاصة ذلك المتعلق بالتهديــد الوجودي لمصر ذاتها؛ والإفشــال المتعمد لمفاوضات الســد الإثيوبي، والوقوع في أسر الخيار الوحيد، فإما الأخذ به، أو غلق الأبواب أمام الباحثين عن حلول.

وهناك مصــادرة واضحة علــى انطلاق هذا الوعــي العائد؛ يقابلــه ترويج لــروح الهزيمة، ويبــدو إنه بعد نشــر موضوع أهمية ســحب توقيع «المشــير» من «اتفاق المبادئ» في يوليو من العام الماضي علـــى هــذه الصفحة، وما ترتب عليــه من إضفاء شــرعية مزيفة على تصرفات إثيوبيا ومراوغاتها، والجرأة على إســقاط حقوق الســودان ومصر كدولتي مصب، انتشرت الآراء والتعليقات على وسائل التواصل الإلكتروني؛ أعرض هنا أحدها.

كتبت ناشــطة مصرية تقول: «يعني الناس من نَفْسِــها كانت مُحْتَرَمة، ونَحُّوا أي خلافات جانبا، وكلنا في حالة اصطفاف خلف الدولة من أجل الحفاظ على حقوق وحصص مصر التاريخية في مياه النيــل، ليه الاســتفزا­ز؟ وليه التصريحات غير المســؤولة فــي الإعلام في الوقت الحرج دا؟ ليه نغمة يناير الســبب رجعت تاني؟» وواصلــت قائلة: «إنت )السيســي( محتــاج اصطفاف ولِحمــة مش مزيد من الإنقســام فــي الداخل، يوم مــا الرئيس يستشــهد بالحرب يستشــهد بـ67، كان من باب أولى تستشهد بـ73، ياريس، انــت مفترض بتوجه كلامــك للخارج، ومفترض بتعرض قدراتنــا، وتوجه الكلام للداخل وتخوفه من النكســة، وتســتفزه بإلقاء اللوم على )ثورة( يناير، لا يناير الســبب، ولا 2011 الســبب، ولا حكومة شرف )عصام شــرف( السبب، وقبل ما حد يقــول يناير، يا ريت يطَلَّع نص وثيقــة اتفاق المبادئ إللي إثيوبيا استمدت منها )الشرعية الوحيدة( في بناء السد دون قيد أو شرط؛ ملزم عليها تجاه آليات التنفيذ. توقفوا عن التصريحات المســتفزة، وتوقفوا عن العبث في الحديث، ويا ريت تكونوا على قدر المسؤولية تجاه اللحظات الأخيرة في مواجهة خطر وجودي يهدد شعب ودولة تعدادها 100 مليون، الاستشهاد بهزيمة 67 بدل التباهي بالانتصار في 73 منتهى العبث».

وتلك أحد معالم الوعــي الذي عاد، والحراك الذي بدأ للعيان، ويبذل «المشير» قصارى جهده لوأده كما وُئِدت ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013؛ بعد أن اســتند عليهما في الوصول لمقعد الرئاسة، ونعلم من مصدر موثــوق بوجود تعليمات رئاســية بفتح النار وإشــعال حملة على ثورة يوليو وأنصارها، فمــاذا يبقى، وماذا يمكن أن يُسَمَّى ذلك؟!.

وهدف الكتابة من غيــري ومني، هو عدم ترك الأمور تســير بنرجسية أو عشوائية بائسة، أو استكبار شخصي؛ عند معالجة القضايا العامة والمصيرية والخطيرة، وبالمناســ­بة ماذا يمنع من السير في أكثر من طريق؟ طريق تجميد «المشروعات الشخصية» التي نُفِّذت بأوامر «المشــير» وعليه تحمل مســؤوليته­ا وتبعاتها كاملة، ووقف نزيف الديــون وتكلفتها، وخفض التضخم، والحد من الارتفاع الجنوني للأسعار، وإعادة الدعم لمستحقيه، وتخفيف أعباء المعيشــة من على كاهل المصريين «الفقــرا قوي» والطريق الثاني، طريــق التنمية الجادة والمخططة والشــاملة، بعيدا عن الاســتثما­رات الفاســدة لأباطرة المال وحيتان الأعمال، ودورهم فــي تخريب الاقتصاد الوطني، وســن قوانــن ضابطة، وتعبيد مساحات أوسع للحريات العامة والخاصة، وجعل الكلمة الأولى والأخيــرة للقانون والدســتور الذي ضرب بــه عرض الحائط، بتعديلات أخيرة تبقي «المشــير» على مقعد الرئاسة مدى الحياة،

ومن الممكن إعادة القطاع العام، بما تحت يد المؤسســة العسكرية من أصول انتاجية، زراعية وصناعية وعقارية وخدمية واســتهلاك­ية، وهناك خطة لخصخصة هذه الأصول الضخمة وبيعها وســرقتها كالمعتاد، والقوى التي تقف وراء ذلك خارجية، في واشنطن وتل أبيــب ولندن وبرلين وباريس كلها لا تضمــر لمصر خيرا، وهم من يعتمد عليه «المشير» في تثبيت الحكم.

وطريق الفنون الجميلــة والإبهار لا يقتصر على مواكب رفات قدماء الموتى من الملــوك أو الحكام، وعلى الدولة أن تعطي بعض اهتمامها للأحياء، الذين يبحثــون عن من يحنو عليهم ويقدرهم في حياتهــم ويحترمهم، ومن الطبيعي أن يســتمر ذلك في رحلة المغادرة للدار الآخرة، وكان ذلك حقيقيا أيام مهرجانات الشــباب الثقافيــة والفنيــة والرياضية، وأســابيع شــباب الجامعات، ومســابقات المدارس الإعدادية والثانوي، ورعاية مواهب أبناء الفلاحين والعمال وصغار الكسبة وموظفي الدولة، وأعياد العلم والفن، ومؤتمرات الأدباء الشبان وغير الشبان.

ولما حل القحــط والجهل توقف كل ذلك، وأُســتُبدِل ببغاوات يتحلقون حول «المشــير»؛ يتحــدث إليهم بظهــره، وبهم جفت ينابيع التنوير والثقافة والأدب والفكر والعلوم، وشاخت الدولة وأظلمت دنياها، وضاقت ســبلها فتوحشــت، وأنتشــر الإرهاب وعشــعش في البيــوت ودور العبادة ومعاهد العلم والدراســة واكتساب المعرفة وأماكن العمل، وما زال يتمدد، أما البهجة الهادفة سند للتنمية، وتغطي تكلفتها دون إرهاق لميزانية الدولة، وسبق لمصر دفع أثمان باهظة لأعمال بائســة لزوم «النفخة الكدابة» كما نقول في مصر، وتلك المواكب أثبتت إن الذوق العام ما زال بخير، والإبداع ما زال موجودا، والبهجة صناعة مصرية؛ يشاركهم فيها أشقاء على اتساع «القارة العربية» ولا يجب أن يشدنا هذا بعيدا عن تحديد مسؤولية «المشــير» في صناعة مأزق السد الإثيوبي، وعليه الاعتراف بمســؤوليت­ه، وعدم ســحب توقيعه من «اتفاق المبادئ» والتكفير عن ذلك ديمقراطيــ­ا؛ لا يكون بتوجيه الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom