Al-Quds Al-Arabi

الصومُ عن الكلام

-

■ يُوجَد قانُون لســاني كوني يُعرف بقانــون الاقتصاد اللغوي مفاده، أن الإنســان الميال إلى الكســل بطبعه ينزع في أنشطته إلى المجهود الأدنى في الــكلام، ولذلك نجده يحــذف ويختصر ويضمر ويقدر، كي يعبر عن المعنى بأقل كلفــة لفظية، بل ربما كان الكلام في أصله ضربا من الاقتصاد الأدائي، الذي يعوض جهدا آخر كان يكون أكثر كلفة وأعسر أداء من أن نتكلم.

لكن الكلام، وعلى الرغم من ميل الناس فيه إلى الجهد الأدنى، فإن خلــف كل جهد أدنى في النطق جهدا إدراكيــا أكبر يبذل في الفهم، أو في تعويض المحذوف، أو المختصر أو المضمر. فلو قلت لي )متى بدأت تصوم؟( وقلت لك )في العاشرة( لفهمت قصدي وكأني قلت لك الكلام تاما أي قلت لك )بدأت أصوم في سن العاشرة(.

أنت تفهم الكلام رغم ما فيه من حذف، بعد أن يعالج ذهنك كلامي، فيتمــم العناصر التي حذفتهــا بناء على العناصر التــي ذكرتها في الســؤال. فالجهد القليل في المعالجة الكلامية يوازيه جهد آخر ذهني فــي تتميم الناقص من الكلام، كي يتم الفهم. وهذا يشــبه إدراكيا أن أتمم حين أرى أجزاء صورة شمسية لشخص مألوف معلقة على جدار في وسط البلد، قد أزرت بها الرياح ومزقتها، سأتمم الأجزاء الناقصة لأتمكن مــن التعرف على صاحــب الصورة. يعرف هــذا في نظرية الجشــطلتب­قانونالإتم­امأوالإغلا­ق ويعني أننا نســعى دائما إلى أن نســتكمل الناقص في المدركات البصرية أو الســمعية، أو أن نغلق الشكل الناقص الذي نبصره، أو نسمعه حتى يكتمل رغم نقصه.

في أيام الصيام ينتبه الناس إلى كل مجهود يبذلونه ويسعون إلى الاقتصاد فيه، بما في ذلك الكلام. يوجد تناســب بين النشاط البدني والذهني، والقدرة على الــكلام ويعرف الناس جيدا أن العليل يمكن أن يعفى من الكلام، وأن الكلام لديه يصبح عنصرا من عناصر الإتيان بما يرهق من الأعمال. هذا لا يشــعر به الســليم لأن السلامة شيء لا يتطلب شــعورا مغيرا؛ فإن تكون ســليما هو ألا تشعر بما يزعج، أو قل، أن تشــعر بما لا يزعج، وما لا يزعــج إذا كان مألوفا يمر في حيز الإدراك وكأنه شيء لا يشعر به. نحن لا نتعب من الكلام مثلما نتعب من المشــي، نتعب من المشي حين نمشي كثيرا وطويلا وسريعا، لكننا لا نتعب من الكلام إلا إذا تكلمنا بمفردنا، ولم نجد من يقطع عنا الكلام لكي يتكلم هو ونسمعه. لو قسنا الكلام بالمشي لقلنا إنه مشي فتوقف فمشــي فتوقف: الوقفة تكون بين مقطع ومقطع من الكلام، لكن المشي مبني على نظام من الاسترســا­ل لا ينتهي أحيانا إلا عند وصولنا إلى غايتنا. يعرف المشتغلون من المدرســن بالكلام كيف يمكن أن يكون الكلام متعبا. المدرســون الذين يقضون في القاعــات، وبين جمهور صامت ســاعات وهم يتكلمون، يعرفون كم تعني ســاعة من كلامهم المسترسل، ومن صمت الآخرين المسترســل طبعا، نحن نتحدث عن درس غير تفاعلي هو لا يشعر بيداغوجيا غير أنه موجود.

يعرف المدرســون أن كلام طلابهم والمشــارك­ة معهم يضفي ضربا من النشــاط على الفصل، لكنهم يعرفون أيضا أن التلاميذ الغاضبين يمكــن أن يصمتوا فهم يحجمون عن الكلام ولا يتفاعلون مع أســئلة مدرسهم، ولا يجيبون ولا يسألون لا ينطقون؛ هم بعبارة استعارية يصومون عن الكلام. العقاب بالصمت عقاب قديم يســلط على البشر فيمنعهم من أن يتكلموا مدة في كل المواضيع، أو في مواضيع بعينها. العقاب بالصمت هو ضرب من الإحجام عن الكلام، لا لأنه يكلفنا جهدا جسديا أو فكريا، بل لأنه يكلفنا جهدا آخر قد نشعر أنه لا طاقة لنا به: هو جهد العناية بالكون من حولنــا. نحن نصوم عن الكلام زهدا في أثره في المستمعين.

الصوم عن الكلام الذي هو في هذا الســياق استعارة ليس كذلك في ســياق آخر شهير هو ســياق الآية الكريمة من ســورة مريم في قوله تعإلى: «إني نَذَرْتُ للرحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلمَ اليَوْمَ إِنْسِيا». قال المفسرون إن للصوم عن الكلام في هذا الذكر الحكيم وظيفة في قصة السيدة العذراء، هي الاستعفاء من كلام قد لا يُجدي نفعا وقد لا يُوجد عذرا لما يبدو في الظاهر كالمعصية، هي في أذهان قوم مريم مقررة قبل معرفة الحقيقــة، وأن هذه الحقيقة لن تصدق إن وردت على لســان السيدة العذراء. فإن تسكت شيء، وإن تصوم عن الكلام شيء آخر. الســكوت عن الكلام يكون اختيارا وتركا إراديا للكلام، لكن الصوم عنه هو ترك له وفي النفس حاجة إليه هو انقطاع لسبب قسري حتى لكأنه انقطاع عن عادة انقطاع من حرم نفســه شيئا محبوبا. توجد مسألة شــائكة قلما خاض اللغويون فيها هي، أسبقية معنى الصوم عن الطعام عن الصوم عن الكلام، أو عدم أسبقيته، بعبارة أخرى أن الاعتقاد أن الصوم عن الكلام هو اســتعارة من الصوم عن الطعام، لا دليل يثبته على الأقل في المعاجم العربية.

الصوم عن الكلام في ســياق الآية الكريمة شــرحه أهل التفسير شرحا يقود بشكل عام إلى رؤية واحدة لا علاقة لها بوظيفة الصمت عن مواجهة السيدة العذراء للناس، بل كل ما قيل - وهو ليس قليلا في شــرح صومها عن الكلام - يندرج في باب صنع معجزة الكلام ، كلام السيد المسيح في المهد. معجزة الكلام في المهد بينة وظاهرة، ولا تحتاج توضيحا يكفي أن تكون التجربة البشرية السابقة واللاحقة حجة كافية لذلك. يبدأ النطق بالكلام عند الأطفال العاديين بداية غير معجــزة، لأنه يبدأ تطوريا تراكميا بتطور العمر الأول، فعلى ســبيل المثــال يبدأ الأطفال باســتعمال الكلمات الجمــل، أو الكلمات الأفكار ثم يتدربون شــيئا فشــيئا على إنشــاء الكلام بالطرق المتاحة في اللغات الطبيعية. القدرة على الــكلام تنضج بنضج العقل وباكتمال التجربة مع الجسد، ويصبح المرء قادرا على الربط بين التفكر بما هو حالــة ذهنية لبناء المقاصد، والتعبير عــن مقاصده باختيار الألفاظ والعبارات المناسبة، بعد تنشيطها من الذهن، وبالطبع بعد أن يتدرب اللسان على النطق الســليم وحتى السريع. هذه هي الحالة العادية في بناء التجرية البشــرية في إنشاء الكلام. وهنا يمكن أن يكون أي ســبب ذكره المفســرون ممكنا. أن يكون الصوم عن الكلام في علاقة بالمعجزة في حالة السيد المســيح صبيا، ينبغي أن يدرك من جانبين أولهما دور المحفز الدافع إلى الســماع، والثاني دور المحفز الدافع إلى الكلام. لقد كان صمت السيدة العذراء دافعا أساسيا إلى الإقبال على الاســتماع إليها، فهي قــد دفعت الحاجة إلى الإفــادة التي في أنفس ســائليها إلى أقصاها، بصومها عن الكلام وهــي بذلك حجبت كلاما يحتاج إليه لإثبات التهمة وفي مرحلة مستبعدة لإثبات البراءة.

ولم يكن الســامع بعد إشارة مريم إلى الصبي عيسى عليه السلام في مهده مســتعدا للمعجزة «كيفَ نكلمُ من كانَ في الَمهْدِ صَبيا؟» وفي ذلك يتوفر شــرط المفاجأة وعــدم التهيؤ للمعجزة. لــم يكن المتكلم مســتعدا بيولوجيا للكلام، مثلما لم يكن المســتمع مستعدا تجريبيا لســماعه. لكن نطق الصبي النبي في المهد، فــكان نطقه خارقا بقطع النظر عــن مضمونه، لكن نطقــه بكلام مرتب يســتجيب للوضعية المعقدة عقلا وأخلاقا وتجربة، يقوي من درجة المعجزة والخرق، وما يزيد من تعظيم شأن المعجز الخارق والمفارق أنه لم يتحدث في سياق السؤال، بل تجاوزه إلى ســياق أعم: سياق النبوة. الصوم عن كلام الأم الوالدة كان فرصة لولادة كلام النبي في المهد، لكي تســتقيم في البدء كان الكلمة، لا بد أن تسبق بصمت ما هو ليس البدء ولا المنتهى هو مرحلة ما قبل الكون الصائت.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom