Al-Quds Al-Arabi

النقد الأيديولوج­ي والأدب

رشيد سكري

-

■ فــي كثير مــن الأحيــان، تخرج رؤيــة الكاتــب للواقع على شــكل بوح واعتــراف دفــن بالألم، وإحســاس ســادر بالمهانة والضعــف والهزيمــة. وفــي ذلــك، إطلالة مــن عل علــى دواخل الكاتــب، وما يشــعر به تجاه ذاتــه المبدعة، وتجــاه الآخرين أي: القــراء. وإذا مــا ربطنا هذا الفعــل بالمواقــف والقناعات، نجد أن البعــد الأيديولوج­ي، في النقد، يحتل مرتبة أساســية، بل يهيمن بشــكل فعلي وكلي على الباحث والدارس للمتن، بهدف استبانة هذه العلاقة الغامضة والمبهمة والملتبســ­ة، التي تجمع بين المبدع وما يحيط به.

فأي قــراءة تبتغي الإمســاك بجوهر الإبداع، لابــد أن تقارب، ضمن اســتراتيج­يتها ومنهجيتها الشــاملة نســق الأفــكار، التي تســتحوذ على الكاتب، ومدى تأثيرها في المنجز النصي. وتكون الإجابة على ســؤال من قبيل: ما الظروف التي ساهمت في إنتاج هذا النص؟ أو ما النصوص الغائبة أو المهاجرة إلى هذا الإبداع أو ذاك؟ كفيلة بأن نضع اليد على الخيط الأيديولوج­ي، الذي يساعد على فهم ما يحيط بنا، أكثر فأكثر، من أفكار ومعلومات.

أبلغ من ذلك، فالقراءة الأيديولوج­ية، في هذا المستوى، حسب عبد الله العروي، ترمي إلى التعبير عن الغاية، التي يتوســل إليها الكاتب، انطلاقا من عناصر متعددة يتشــكل منها الإبداع. فضلا عــن أنهــا طريقة مثلــى فــي التفكير، تســاعد الإنســان على فهم الظــروف المحيطة به اعتمادا على خلفياتــه المعرفية، وما يحصل عليــه من معلومات. وفي ظل ذلك يتمأســس الإبــداع على ثوابتَ مقننة، يرمي إلى فضح واســتجلاء الغامض، وتفســير الظواهر في التجربة الإبداعية.

إن البعــد الأيديولوج­ــي، فــي دراســة الأدب، كان ولا يــزال بمثابة قوة ضاربة وقاســمة للفكــر الخرافي والأوهام، التي كان يتخبط فيها الإنســان؛ ويعيشــها ملء جوانحــه. ونتيجة لذلك، تأسس الفكر الأيديولوج­ي، وأرســى دعائمه المفكر والفيلسوف الفرنسي أنطوان دي تريسي؛ ليقطع الطريق، نهاية القرن الثامن عشــر، أمام الخرافات والمبررات الميتافيزي­قية، التي تشــل الفكر الإنساني. فدخل دي تريسي في دوامة من الصراع مع الكنيسة، التــي كانت بدورهــا تحارب الفكر الفلســفي، وروافــده الثقافية والمعرفية بدعوى أنه ـ أي الفكر الفلسفي ـ يغذي الفكر الشيطاني ضد البشر.

وبانتقالنـ­ـا إلى الفكــر العربي، نجــد أن النقــد الأيديولوج­ي، للظواهر الأدبيــة والثقافية، جاء مغلفا بأحــداث تاريخية مهمة، أثرت بشــكل مباشــر في وعــي الإنســان العربي بقيمــة الزمن؛ ومــدى تأثيره في بناء نســق الأفــكار. إن لتدمير المغــول لبغداد، معقل الخلافة العباســية في الشــرق العربــي، وانهيار الخلافة العثمانيــ­ة، أثــرا بليغا في تشــكيل وعي عربي بخطــورة المرحلة الاســتعما­رية، التي تخترق الوطن العربي، خصوصا بعد انزياح الرجل المريض من على الخريطة السياســية في الشــرق والغرب العربيــن. ففي كتاب «مفهــوم الأيديولوج­ية» لعبــد الله العروي الصادر سنة 1993، أشار فيه إلى أنه من الضروري اعتماد طريقة علمية في التفكير، وتفســير الظواهر. ومن ثم فســح المجال للنقد الأيديولوج­ي؛ كي يشــتغل على ظواهر أدبيــة ذات حمولة فكرية عميقــة. بهدف فهــم الواقــع السياســي، والوضــع الاجتماعي، اللذين يشــان عجلــة التقدم من الدوران، على حد ســواء. وعلى أســاس ذلك، جاء مارون الخوري ليفســر الأطروحات الفكرية، التي تأسســت عليهــا النهضة العربيــة، وبول ســالم ليربط بين الفكر الأيديولوج­ي وتقدم العرب.

في المغرب، تعتبر إبداعات محمد زفزاف، في القصة القصيرة، أكثر اســتيعابا وتمثلا للنقد الأيديولوج­ي، لمــا تزخر به قصصه من ظواهر اجتماعية ملفوفة بعناية في دثار سياســي متين. ففي أضمومة «العربة» لمحمد زفزاف، التي نشــر طبعتها الثانية ســنة 1993، تطالعنا عناوين تغري بالغزو حســب باشــار. إلى جانب قصة «أطفال بلد الخير» التي اعتبرتها، من زاوية بنائها الكاسر، ظاهرة المجموعة بكل المقاييس، نجد قصصا أخرى، لا تقل أهمية مــن حيــث التمثيــل الأيديولوج­ي للواقــع المغربــي المعاصر، من أمثال: الكناس، ســردين وبرتقال، عربة النساء، النباش، عندما يصير الرجل حمارا، ومظاهرة، وغيرها من القصص الأخرى...

في «العربة» المجموعة القصصية لمحمد زفزاف، نجد ســيولة أيديولوجية مرنة، تعرّي واقعــا موبوءا ومتعفنا، نظرا للتهميش والحرمان الذي تعيشــه أغلب شــخوص هذه المجموعة. فالعربة رمــز للطبقة الكادحة، التــي تتعب من أجل لقمــة العيش. إلا أنه، وعلــى غرار ذلــك، تفاجئنا قصــة «أطفال بلد الخير» بســمفونية جديــدة، ومتفردة في بنائها، لا على مســتوى الأدب الذي تطمح إليه، ولا على مســتوى الحبكة القصصية، التي اعتمدها زفزاف، وهو يخط هذه القصة الفريدة.

تحكي قصة «أطفال بلد الخير» عن «الضاوية»؛ المرأة المغربية المقاتلــة. ومــن أجل توفير لقمــة العيش لوليدها، تبيــع الضاوية البرتقال في ســاحة متربة خلف الفيلات وأمام الحي الشــعبي. فهــي ترعى طفلها من طليقها، في ما هو ظل متواريا وســلبيا في كل مراحــل القصة. فالبيع في الســاحة المتربــة، خلف الفيلات، يفضي بالضاويــة إلى أن تدخل في معركتــن حاميتي الوطيس على واجهتين؛ الواجهة الأولى مع أطفال جياع خلفها، يتوسلون ابنها بــأن يرمي لهم بعــض البرتقالات المتعفنة؛ كي يســدوا بها جوعهم ورمقهــم. بينما الواجهة الثانية مع ســلطة تطارد الباعة المتجولين فــي الأزقة والشــوارع والســاحات العمومية؛ وهو ما ســماها محمد زفــزاف بمعركة ربع ســاعة. فالســمفون­ية، التي تخيط القصة من بدايتها إلى نهايتها، جاءت على لسان الضاوية «ها الخير زيدوا ها الخير». يقول محمد زفزاف في قصة «أطفال بلد الخير»: « ـ الضاوية. أريد برتقالة. أنا جائع. ـ ها الخير! زيدوا ها الخير! ـ أريد برتقالة. ـ يا ابن الكلبة. ألا تحشــم؟ منذ الصباح وأنت تأكل. الليلة ســوف تتقيأ مصارينك. ركلته بقدمها، فسقط أرضا، وابتعد عنها بحوالي متر. استمرت هي:

ـ ها الخير! زيدوا ها الخير»!

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom