Al-Quds Al-Arabi

إنقاذ الأدب... وورطة الحريري

-

■ يقــر الحريري فــي مقدمــة كتابه المقامــات، بأن بديــع الزمــان الهمذاني، صاحب هذا الشــأن، وأن كل من تعرض لإنشاء مقامة فمحكوم عليه بالفشل، وذلك في موضعين من افتتاحيته، أولهما قوله: «فأشــار من إشــارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلــو البديع، وإن لــم يدرك الظالع شــأو الضليع» والظالع الذي يغمز في مشــيته وهو أيضا المائل عن الطريق القويم، والضليع السمين القــوي والضلاعة قوة الأضــاع. واضح فــي قــول الحريري، مــن هــو الظالع ومن هو الضليــع، فالتواضــع وخفض الجناح للمتقــدم، يقضــي فــي الثقافــة العربيــة التنقيــص من شــأن الــذات، والإعلاء من شــأن الآخر، وبهذا المقتضى، فالظالع هو الحريــري، والضليع هــو الهمذاني، ومنه إشــارة، إلى إعلاء شــأن المبــدع، وتحقير شــأن المقلــد، فالهمذانــ­ي مبــدع جنــس المقامة، وبذلــك اســتحق أن يبجل وتقدم له آيات الاحتــرام، والحريري مقلد، فكان من المناســب أن يُجْعل في منزلة دنيا، لكن الســؤال الأهم في هذا السياق: لماذا يضع الحريري على جلالة قدره، نفســه في هذا الموقف الذي لا يشرف صاحبه؟

أمــا الموضــع الثانــي الــذي يقــر فيــه الحريري بتفوق الهمذاني، وأن المقلد مهما أوتــي من براعــة في القول، فلا يســتطيع أن يتخلــص مــن هيمنــة الهمذانــي، وأنه لن يعــدو أن يكــون مجرد ظل لــه، فقوله: «هذا مــع اعترافي بــأن البديــع رحمه الله ســباق غايــات، وصاحب آيــات. وأن المتصــدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته.»

بعدما بينــا الموضعــن اللذين يقر فيهمــا الحريري

بتفــوق الهمذانــي عليه؛ نعود إلى تســاؤلنا الســالف: لماذا يضع الحريري نفســه في هــذا الموقف؟ وإذا كان المتصدي بعد الهمذاني لإنشــاء مقامة لا يغترف إلا من فضالته، فلماذا كلف نفســه إنشــاء خمســن مقامة؟ ألا يعــد هــذا مجرد مضيعــة للوقــت وهــدر للجهد، إذ الأمر محســوم قبل البدء، فنصيب الحــظ مكفول أبدا

للهمذاني، فلماذا أزعج الحريري نفسه؟

للإجابة على هذه الأســئلة، نرجع إلى ملفوظ قوليّ ســابق، يقــول فيــه الحريــري: «وبعد، فإنــه قد جرى ببعــض أنديــة الأدب، الــذي ركــدت فــي هــذا العصر ريحه، وخبــت مصابيحه». يحيلنا هــذا النص القصير

إلــى الوضع الأدبــي في عصــر الحريــري، فهو عصر مزرٍ بالنســبة لــأدب، لم يعــد للأدب فيه قوتــه، وهنا لجأ الحريــري، إلــى المقابلة بــن الماضــي والحاضر، ففي الماضي كان كل شــيء على ما يرام، كانت ســوق الأدب رائجــة، ومصابيحه مشــعة، وهو اليوم ســوق نافقــة، ومصابيحــه كابيــة، في هــذا الســياق كان لا بد مــن منقذ لهــذا الوضع الذي لا يبشــر بالخير، فمن عســاه يكون؟ إنه أبو محمد القاســم بــن علي بــن محمــد بــن عثمان الحريــري البصــري، وهنــا نخلــص إلى أن الحريــري، لم يســع لتقديم نفســه في صورة نــد للهمذاني، بقدر ما كان يتوخى تقديم نفســه في صورة المنقــذ، وليكرس هذا الدور البطولي لم يرشــح نفســه لهذا الإنقاذ، لأن هذا يتنافى مع نبرة التواضع المهيمنــة علــى هــذا النــص، وإنما أســند مطلب الاختيار إلى أعلى سلطة في البلاد، حيث وقــع عليه الاختيار من دون ســائر الخلــق للاضطــاع بهذا المهمــة الصعبة، وعلى الرغــم من أنه، حــاول التملص من تحمله هــذا العــبء، إلا أن الســلطة التي أوكلت إليه هذه المهمة لم تسعفه بالإقالة، يقول: «فأشــار من إشارته حكم، وطاعته غنــم، إلــى أن أنشــئ مقامات أتلــو فيها تلو البديــع... فلمــا لم يســعف بالإقالة، ولا أعفــى من المقالــة، لبيت دعوتــه تلبية المطيع». وعلى هذا يكون الحريري، بذكاء دبلوماســي، قــد لبّــى رغبته فــي الإبداع والتفــوق علــى غيــره، دون أن يظهــر في لبوس المتمرد على أســتاذه الهمذاني، ودون أن يخرق العرف المجتمعي في التصدر للكتابة، دون طلب رسمي مــن جهة عليــا، فالكتابة فــي التراث العربــي، لا تأخذ موقعها في الثقافــة إلا إذا كانت صادرة عن طلب، كما

أنه من جهة خفية قدّم نفســه في صــورة المنقذ للأدب الــذي أزرى بــه الحــال، وهي مكانــه ســامية ومنزلة رفيعــة لا يتصــدر لهــا إلا النبغاء فــي القول، الشــيء الذي يتعــارض صريحا مع نبرة تواضــع أخرى زائفة في قوله: «وأنشــأت على ما أعانيه من قريحة جامدة، وفطنة خامدة، وروية ناضبة، وهموم ناصبة، خمسين مقامة .»

ويتكرس زيف هذا الادعاء في قول الحريري نفســه واصفا مقاماته الخمسين بكونها حوت من «جد القول وهزلــه، ورقيق اللفــظ وجزلــه، وغرر البيــان ودرره، وملــح الأدب ونوادره إلى ما وشــحتها بــه من الآيات، ومحاسن الكنايات، ورصعته فيها من الأمثال العربية، واللطائــف الأدبيــة، والأحاجــي النحويــة، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية» إذ كيف لمن وشح مقاماته بهــذه الصفات أن يدعــي أن قريحته جامــدة، وفطنته خامــدة، ورويتــه ناضبــة، وهمومه ناصبــة؟ يبدو أن الحريري وهو ينشــئ مقاماته، كانت تتنازعه رغبتان، رغبــة في العجــب بنفســه، ورغبة في خفــض الجناح والاستكانة والتواضع لمن حوله، فهو يقر بأنه صاحب قريحــة جامدة، ومع ذلك لا يســتطيع أن يكتم روعة ما أنشــأته هــذه القريحة مــن رقيق اللفــظ وجزله، وغرر البيــان ودرره، وملــح الأدب ونــوادره... وهــي ســمة تناقضية، تطال البناء الكلي لهذه الافتتاحية التي قدم بها الحريري مقاماته الخمسين.

٭

 ??  ?? من المقام السابع للحريري البصري
من المقام السابع للحريري البصري
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom