Al-Quds Al-Arabi

السودان: عامان على إسقاط البشير

- *

خلصنا في مقال سابق تحت عنوان: «عمر البشير: نهاية مستبد عنيد» إلى أن النظــام الســوداني الســابق كان في آخر عهــده محاطاً بالأعــداء، ليس فقــط من أولئك التقليديين من مجموعات اليســار السياسي أو غيرها من الفصائل المتمــردة، التي كانت ترى في ســلطة «الإنقاذ» خطراً لا يمكن التعايش معه، ولكــن أيضاً من مجموعات وتيارات كانت حتى وقــت قريب، إما جزءاً من النظام، أو شديدة القرب منه.

لم يقتصــر الأمر علــى الانشــقاق الكبير الــذي أدى لخروج مجموعة حســن الترابي، الــذي كان يمثل عرّاب النظام ومفكره الأهم من هرم الســلطة، بــل تعدى الأمر ذلك لشــخصيات مؤثرة كانت مقربة من الرئيس البشير، كغازي صلاح الدين الذي بدأ مفاوضاً للمتمردين، وانتهى معترضــاً على طريقة التفــاوض، ثم علــى طريقة إدارة الدولة، ما أدى إلى إقصائه وتشكيله حزباً معارضاً.

الانشــقاق­ات والاعتراضا­ت داخل نســيج السلطة لم تقتصــر على هذا، في الواقع فإن البشــير كان مســؤولاً

بشكل أو بآخر عن تكثير أعدائه، فمع كل تقدم له في العمر والحكم، كان يزداد استبداداً ورعونة، كما كان يفقد القدرة علــى التفريق بين حلفائــه الذي يقدمون لــه نصائح قد تكون قاسية حول إدارة الدولة وتخفيف القبضة الأمنية، وإتاحــة الحريات والفــرص لتداول الســلطة، وأعدائه الذين كانوا يزينون له البقاء في السلطة والتعامل بحزم مع المعارضين من الخارج والمعترضين من الداخل.

فــي نهاية المطاف اختار البشــير مجموعــة ضيقة من المستشــار­ين الذين كان يظن أنهم ســيكونون الأحرص على ما اعتبرها المصلحــة العامة، فأصبح أكثر اقتراباً من رفاقه العسكريين، وتم تشكيل ما يعرف باللجنة الأمنية، التي ستلعب للمفارقة، دوراً أساسيا في هندسة الانقلاب عليه، وتشــكيل نظام الحادي عشــر من إبريل/نيسان. عمل البشــير كذلك على تقريب عدد من الأســماء المدنية المغمورة، التي كان مطلوباً منها سد فراغ استبعاد الأسماء الكبيرة التي كانت، حســب تقييم البشير، ومن يثق بهم من مستشــارين، غير موالية بما يكفي. ازدادت الخلافات والاحتكاكا­ت، بعد إصرار البشــير الهستيري على إعادة الترشح في عام 2020 وبعد فشل محاولات إثنائه عن ذلك بطريقة العرقلة الحزبية، حيث بادر البشــير، الذي كان وعد سابقاً بعدم الترشــح، إلى اللعب في آليات الحزب، وإلى ممارســة ضغوط مختلفة، بحيث لا يجرؤ أحد على الاعتراض بشكل مؤثر على إعادة ترشيحه.

هنا بــرز تياران: التيــار الأول هــو الإصلاحي، الذي كان يرى أن عرقلة ترشــح البشير هي الوسيلة الوحيدة لإحداث تغيير فــي الحزب، وفي طريقة إدارة الدولة التي كانت مكبلة بكثير من القيود بســببه، أمــا التيار الثاني فهو لوبي المصالــح الذي كان يرى أنه ســيتضرر من أي تغيير مفاجئ في هرم الســلطة، لاســيما إذا تمت تنحية البشــير الذي كانوا يستفيدون من علاقتهم به في تيسير أمورهــم مقابل دعمه في كل توجهاتــه. الرهان على ولاء لوبــي المصالح هــذا، مقابل تيار الإصــاح كان جيداً في البداية، لكن هذا اللوبي لم يكن بإمكانه تعويض خسارة فقد المجموعــا­ت العقائدية التي كانــت ترتبط ارتباطات تنظيمية وفكرية بالســلطة. ليس هذا فقــط، ولكن ما لم

يكن يدركه البشــير هو أن حلفاءه الجدد لا يحبونه بقدر ما يحبون مصالحهم، وهم معه ما لم تتضرر هذه المصالح، كما أنهم مســتعدون لبيعه وموالاة غيــره إذا ما ضمنوا أن وضعهــم المالي ومكانتهم الاجتماعيـ­ـة لن تتأثر/ وهو ما حدث فعلاً مع بعض الأســماء التي ظلت باقية وعابرة للعهود.

كل ما ســبق كان على مســتوى دائرة الحكم الضيقة، أما على مستوى الإســاميي­ن الأكبر، ورغم أن النظام كان مصنفاً كأحد أهم الأنظمة الإسلامية في المنطقة، إلا أنه كان في الواقع، مواجهاً بعدة سهام إسلامية، حيث برز عدد من الأئمة والدعاة الذين كان نقد ممارســات النظام عنصراً أساسياً من خطاباتهم وخطبهم، وكان لأولئك أبلغ الأثر في انهيار وتساقط شــرعية النظام، المبنية على ادعاء الحكم الإســامي، حيث كان أولئك الدعاة يركــزون على البعد الشاســع بين قيم الإسلام وممارسة الســلطة السياسية على الأرض، كمــا كانوا يؤكدون على التناقض بين الحكم بالإســام وتفشي الظلم والفســاد. هذا الدور كان شديد الأهمية وقد اســتمر إبان الاعتصام، وتم توظيفه من قبل المحتجين، عبر إتاحة الفرصة لصلاة الجمعة والجماعات من أجل دحض الدعايــة الحكومية التي كانت مبنية على أن حركــة الاحتجاج كانت برعاية الشــيوعيي­ن وغيرهم من الناشــطين المعادين للديــن. دور الخطباء والأئمة في تشجيع المحتجين ودفعهم للحفاظ على حقوقهم، وتذكير الســلطة بواجباتها في حمايتهم، مــع تحذيرها من خطر إراقــة دماء الأبرياء، هــذا الدور لم يتم تســليط الضوء عليه بشــكل كافٍ، حيث فضل متحمســو النظام الجديد وضع جميع العلماء والأئمة فــي طبق واحد، واعتبارهم مجرد تجار ديــن متحالفون مع النظام الســابق، بغض النظر عن مواقفهــم. الطريف هنا هو أن هذه الاتهامات لم ينج منها حتى الخطيب الأشهر في ساحة الاعتصام، حيث تم الهجوم عليه بشــدة، حينما تجاوز نقد النظام القديم لنقد الواقع السياســي والاقتصادي الناشــئ. كان لهذه الخطب والدعاية دور مهم في تشجيع الشباب وتنظيمهم لأنفسهم، كما كان لها دور في تجاوز جدلية كراهة الخروج على الحاكم المسلم، حيث بات كثيرون مقتنعين بضرورة اقتلاع الرئيــس ونظامه، الذي يقدم صورة ســلبية عن الدين. دور أولئك الشــباب الذين شاركوا في التظاهرات مــن أجل حماية الإســام، وليس من أجــل الخروج على أحكامه، كان أيضاً مغمــوراً، في حين فضل النظام الجديد خلق أيقونات جديدة من الأســماء اليسارية والليبرالي­ة، والعمل على تصوير الثورة كثــورة للخروج على النظام فقط لأنــه كان إســامياً. بجانب كل هــذه العناصر كان هناك دور بلا شــك لأعضاء وقيادات الأحزاب اليســارية كالشــيوعي والبعثي وغيرهما، إلا أن هــذا الدور لم يكن شــديد التأثيــر، فبالإضافة إلى حقيقــة أن عضوية هذه الأحزاب لم تشكل إلا نسبة قليلة جدًا من المتظاهرين، كان هنــاك عامل آخر وهو أن هذه الأحــزاب لم تكن على صلة جيدة بالأجهــزة الأمنية والعســكري­ة، وكانت بذلك غير قادرة على التنســيق معها أو توجيهها، بل إن العكس هو الذي كان يحدث، حيث نجحت هــذه الأجهزة، وما تزال، في قيادة هذه الأحزاب ودفعها لدفع الحراك الشــعبي في الاتجاه الذي يخدمها ووفق الواقع الذي تصبو إليه.

الذي حــدث هــو أنــه، وبتنســيق لا غنــى عنه مع العســكريي­ن، اســتطاعت الأقلية الحزبية، ليس فقط أن تتحدث باسم الحراك، ولكن أيضاً أن تنفرد بقيادة الفترة الانتقالية، بعد صناعة ما سمي بالوثيقة الدستورية، التي عكفت عليهــا مجموعة من السياســيي­ن متوافقي الرؤى. كان التوزيــع والمحاصصة الحزبية واضحين منذ البداية، رغم نص الوثيقة على تشــكيل حكومة كفاءات مستقلة، والبعد عن المحاصصة والتســييس من أجل إتاحة فرص أرحب لعموم السودانيين في الوظائف العامة. المحاصصة أضحت أكثر وضوحا في التشكيل الحكومي الأخير، حيث تم إعطــاء أحزاب الأقليــة، التي بدأت تتصــرف وكأنها ربحت الانتخابات، الحق المعلن في تقاسم السلطة. الذي يحدث الآن من تململ اجتماعي من قبل الأغلبية المهمشــة ربما يمتد لصناعة تغيير حقيقي قد يعدل قواعد اللعبة كما قد يغيرها بشكل جذري.

حدوث تململ اجتماعي من قبل الأغلبية المهمشة، ربما يمتد لصناعة تغيير حقيقي قد يعدل قواعد اللعبة كما قد يغيرها بشكل جذري

كاتب سوداني

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom