Al-Quds Al-Arabi

مصر وحكاية السد الآخر

- ٭ كاتب من مصر

■ دون مقدمــات لا تحتملها مســألة وجودية كالأمن المائي لمصر المحروسة، سأشــتبك مباشــرة مع النقاش الدائر اليوم حول ســد النهضة والخيــارا­ت المتاحة أمام صنــاع القرار في القاهرة.

أولا، لســت من الذين يــرون أن توقيع مصــر على إعلان المبادئ بشأن ســد النهضة الإثيوبي 2015 كان خطوة خاطئة يتعــن إلغاؤهــا. كان التوقيع على إعلان المبــادئ، من جهة، ترجمة لدبلوماسية تستهدف بناء الثقة مع إثيوبيا التي دأبت حكوماتها المتعاقبة على الشــكوى مما تراه سياســة أحادية للقاهرة لا تكترث ســوى بالحفاظ على الموارد المائية المصرية دون انتقــاص وترفض التعاطي بجدية مــع رغبة أديس أبابا في توظيف مياه النيل لأغراض تنموية عبر إقامة السدود. دلل التوقيع على إعلان المبادئ على حســن نية الحكومة المصرية تجاه إثيوبيا التي كانت آنذاك قد بدأت في بناء سد النهضة على النيل الأزرق )ومنه يأتي أكثر من 85٪ من موارد المحروســة المائية( وانفتاحها على التفاوض معها وصولا إلى وضع عادل في حوض النيل يحمي حقوق دول المصب، الســودان ومصر، ويضمن لدولة المنبع، إثيوبيا، حقوقها التنموية.

ومن جهــة أخرى، كان التوقيع المصري على إعلان المبادئ ترجمة للالتزام بقواعد القانون الدولي المنظمة للاستخداما­ت غير الملاحيــة للمجاري المائية الدولية. تضمن الإعلان مبادئ عشــرة تمثلت في إقــرار الدول الأطراف لضــرورة التعاون الإقليمي فيما بينها، وامتناع كل منها عن التســبب في «ضرر ذي شــأن» للآخرين، والتزامها بالاســتخد­ام المنصف لمياه النيل، ووجوب التعاون فيما خص ملء سد النهضة وإدارته وتبادل المعلومات والبيانات بشــأنه، والاعتراف بالسيادة المتساوية على الموارد المائية لنهر النيل من جانب دولة المنبع ودول المصب، واعتماد أدوات التســوية الســلمية للنزاعات تفاوضا وتوفيقا ووســاطة. ذات المبادئ العشــرة هذه هي التــي تنص عليهــا الاتفاقيــ­ات الدولية الخاصــة بالمجاري المائية العابرة للحدود، وأهمها اتفاقية هلســنكي للمياه التي أقرت كمبــادرة أوروبية في 1992 وتحولت إلى اتفاقية دولية ودخلت في 2013 حيز التنفيذ بعد تصديق دول غير أوروبية عليها واتفاقية نيويورك للاستخداما­ت غير الملاحية للمجاري المائية الدولية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة.

تحظر اتفاقية هلســنكي واتفاقية نيويــورك على الدول المشــاركة في المجــاري المائية الدولية ممارســة الســيطرة الأحاديــة على الميــاه، وتلزمهــا إن في المنبــع أو في المصب بالاســتخد­ام المنصف للمياه وبالامتناع عن الإضرار بالغير، وتشــجعها على التعاون فيما بينهــا لإدارة المجاري الدولية بهــدف «التوزيع العــادل» للمياه وضمان جودتهــا البيئية ومكافحــة تلوثها والبنــاء الآمن للســدود لإنتــاج الطاقة وللأغراض التنموية الأخرى. ثم تســتند الاتفاقيتا­ن إلى كل ذلك للنص على قاعدة «السيادة المتساوية» للدول دون تمييز

بين دول منبــع ودول مصب، وهي القاعــدة القانونية الأهم لجهة الحيلولة دون تعامل دول منابع الأنهار مع المياه كملكية خاصة تتحكم بها منحا ومنعــا دون اعتبار لحقوق ومصالح الدول الأخرى المشاركة في الأنهار، خاصة دول المصب الأكثر احتياجا لالتزام دول المنابع بالاســتخد­ام المنصف والتوزيع العادل للمياه.

لــم يكن التوقيع المصري على إعلان المبادئ بشــأن ســد النهضة، إذا، ســوى إقرار لقواعد القانــون الدولي المعمول بهــا وتفعيلها كإطار ناظم للتفاوض مــع طرف إثيوبي كثيرا ما تعنــت مدعيا «ســيادته المطلقة» على ميــاه النيل كدولة المنبع ومهددا حقوق ومصالح الآخرين. ألزم مبدأ «الســيادة المتســاوي­ة » الذي نص عليه إعلان المبادئ في مادته التاسعة الحكومــات الإثيوبية )وهــي دوما ما رفضــت التوقيع على الاتفاقيــ­ات الإقليميــ­ة والدولية الخاصة بالمجــاري المائية( الابتعاد عن وهم السيادة المطلقة بالغ الخطورة على الحقوق المصرية، وأحل التعاون بديلا للانفراديـ­ـة كنهج للتعامل مع أمور نهر النيل العظيم وسبل التفاوض والتوفيق والوساطة بديلا لصراعات المصالح حول بناء وتشغيل سد النهضة الذي كان قد صار في2015 حقيقة واقعة يستحيل تجاوزها.

في التحليل الأخير، شد إعلان المبادئ من ساعد المفاوض المصــري الذي بــات في اســتطاعته في الجــولات الثلاثية )بمشاركة الســودان( ومتعددة الأطراف )بمشاركة الاتحاد الإفريقــي وأحيانا بمشــاركة الاتحاد الأوروبــي والولايات المتحدة والمؤسسات الدولية( الارتكاز إلى السيادة المتساوية ومبادئ الاســتخدا­م المنصف وعدم الإضرار بالغير للضغط على إثيوبيا ومقاومة إجراءاتها الانفرادية ومطالبتها بتنفيذ ما أقر في الإعلان وإقامة الحجة عليها حين شــكتها مصر إلى الجهــات الإقليمية والدولية بســبب تعنتهــا المتكرر )ذهبت الحكومة المصرية بملف سد النهضة إلى مجلس الأمن الدولي في صيف 2020(. لكل ما سبق، أرفض الحديث الرائج الآن في المحروســة عن حتمية إلغاء التوقيع المصري والانسحاب من إعلان المبادئ كرد فعل على التعنــت الإثيوبي وامتناعها عن ضمان حقوقنــا ومصالحنا المائية وســد النهضة يقترب من الملء الثاني. لم يلحق إعلان المبادئ بمصر ضررا قانونيا ولم يلغ حصة مصر التاريخية من مياه النيل، بل أظهر حسن نيتنا والتزامنا بالحلول السلمية والتفاوضية ورغبتنا في التعاون مع إثيوبيا لما فيه صالحها وصالحنا ومكننا إقليميا ودوليا من توضيح واقع تعنت وتحايــل ومماطلة الحكومات الإثيوبية. أقام الإعلان أيضا إطارا ملائما للمفاوضات الثلاثية ومتعددة الأطراف ولم يحل دون توجه مصر إلى الأمم المتحدة )مجلس الأمن( لشــكوى إثيوبيا )وهو التوجه الذي ساندته في هذه المســاحة بمقالة عنونت «هل تنقمون على مصــر الدفاع عن حياة شعبها وأمنها؟» ونشرت في يونيو/حزيران 2020( ولا يحول دون ذلك لا حاضرا ولا مستقبلا.

ثانيا، لســت من الذين يــرون أن قرع طبــول الحرب في مصر باتجــاه إثيوبيا يخدم المصلحة الوطنية أو يقارب بيننا وبين صون حقوقنا في نهــر النيل وأمننا المائي. جيد أن ترفع الحكومة، وكذلك المعارضة، من ســقف خطابها بشــأن ســد النهضة ملوحــة بكون «كافة الخيــارات مطروحة» وموظفة مقولات «كالإجراءات المصرية الجسيمة» للرد على الانفرادية الإثيوبيــ­ة. جيد أيضا أن يتواصل التنســيق الدبلوماسـ­ـي والسياســي والعسكري المصري مع الســودان، دولة المصب الأخرى، وأن تطرح الخرطوم والقاهرة إزاء تعثر المفاوضات مع إثيوبيا كاســتراتي­جية إضافية الذهاب إلى مجلس الأمن قبل الملء الثاني لسد النهضة لما يحمله ذلك، مع غياب التوافق بشأن قواعد الملء وجداوله الزمنية، من أخطار للسلم والأمن في حوض نهر النيل ومن ثم لما يمثله من تهديد للسلم والأمن الدوليين.

جيد هذا وذاك، غير أن كليهمــا لا ينزعان أبدا عن الحلول السلمية والتفاوضية كونها الحلول الأفضل لمصالح الأطراف الثلاثة والأوفر أمانا والأقل كلفة والأكثر قبولا إقليميا ودوليا. فمن جهــة، وعلى الرغم من التعثر شــبه الكامل للمفاوضات الثلاثية ومتعددة الأطراف، وإثيوبيا راهنا لا تقبل بالأخيرة سوى في حدود وساطة الاتحاد الإفريقي، لم تستنفذ المسارات التفاوضيــ­ة كل فرصها. نعــم ثمة ضغط وقتــي بالغ يرتبط بالملء الثاني لســد النهضة في الصيف القادم، إلا أن إمكانية العودة إلى المفاوضات بوســاطة الاتحاد الإفريقي والضغط على الحكومة الإثيوبية لقبول مشاركة أطراف دولية كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين وروســيا، وجميع هذه الأطراف تربطها علاقات تعاون مع مصر والسودان وإثيوبيا وظلت قريبة من ملف سد النهضة طوال السنوات الماضية، لم تزل قائمة. من جهة أخرى، تفرض حقائق الجغرافيا والتاريخ التي صاغها مجرى نهر النيل العظيم، شريان حياتنا جميعا، على كافة الدول الأطراف تقديم التعاون الإقليمي والتســوية الســلمية للنزاعات على الأدوات غير الســلمية التي لا توفر لهذا الطرف أو ذاك ســوى لحظات مراوغــة وغير دائمة من التفــوق يظل مآلهــا هو الانقضاء الســريع مثلمــا يظل مآل النزاعات هو الاســتمرا­ر ما لم تحل سلميا على أساس قواعد العــدل والإنصاف والمصالح المشــتركة. من جهــة أخيرة، لا يستســيغ عالمنا المعاصر، لا في محيطنــا الإقليمي ولا دوليا، قرع طبول الحرب حين تتعثر المفاوضات بشأن مسألة صعبة كالحقوق العادلة لدول حوض النيل وفيما خص ملف شــائك كســد النهضة. فطبائع الأمور تخبرنا أن التفاوض حول تلك المسائل والملفات مرشح دوما للتعثر كما لتقلبات الاقتراب من والابتعــا­د عن مائدة المفاوضات وحضور وغياب الوســطاء الإقليميــ­ن والدوليين، وتخبرنا أيضــا أن جولات التفاوض ليس لها إلا أن تجــري بوتائر زمنية بطيئــة. يدرك محيطنا الإقليمــي والدولي ذلك، ولا يستســيغ قرع طبــول الحرب كبديل للتفــاوض مع إثيوبيا مثلما لا يستســيغ انفراديــة الحكومات الإثيوبية المتعاقبة.

أســجل، مرة أخــرى، أن رفع ســقف الخطــاب المصري بالتلويح بالخيارات المتاحة والإجراءات الجسيمة والذهاب المشــترك مع الســودان مجددا إلى مجلس الأمن الدولي هو اســتجابة مناســبة للتعنــت والمماطلة الإثيوبيــ­ة ويعطي للمفــاوض المصري مســاحات إضافية للضغــط والتصعيد والتوريط الإيجابي للأطــراف الإقليمية والدولية مع اقتراب موعد الملء الثاني لسد النهضة وغياب التوافق حول الشروط والتوقيتات. على الرغم من ذلك، يظل السبيل الوحيد لضمان الحقــوق المصرية في ميــاه النيل وضمان أمننــا المائي يظل هو مواصلة الالتزام بالحلول الســلمية وبالتفاوض كأداتنا الأساسية واستدعاء كل الوسطاء الممكنين للمساعدة. بل أن الخطاب المصري، الحكومي والمعارض، ينبغي أن يظل ملتزما بطابعه الســلمي والتفاوضي لكيلا نخسر التعاطف الإقليمي والدولــي مــع موقفنا وسياســتنا. فقد أظهــرت مصر خلال السنوات الماضية، خاصة بعد توقيعها على إعلان المبادئ، في 2015، حســن نيتها تجاه إثيوبيا وأهدافها التنموية الكامنة وراء بناء الســد وتفاوضت معها دون انقطــاع طلبا لضمان المصالح المصرية المشروعة وحين تعترض اليوم على اقتراب المــلء الثاني دون توافــق لما يمثله من خطر بالــغ على أمنها المائــي فهذا حقها وعلى الأطراف الإقليميــ­ة والدولية المؤثرة الانتقال من خانة استساغة التعنت الإثيوبي إلى خانة رفضه والضغط على الحكومة الإثيوبية للتوصل إلى حلول توافقية مع مصر ومع السودان كدولة المصب الأخرى قبل الملء الثاني. تلك هي المضامين والمفردات التي يتعين علينا مخاطبة إقليمنا وعالمنا استنادا إليها، وليس القرع غير المسؤول لطبول حرب ليس لها سوى أن تودي بالتعاطف مع قضيتنا العادلة ونحن اليوم في أمس احتياج إليه.

لمصر حق وجودي في ميــاه النيل تهدده اليوم الانفرادية الإثيوبية في إدارة ملف بناء وتشغيل سد النهضة الذي صار حقيقة واقعة لا إلغاء لها. لمصــر قضية عادلة جوهرها رفض ادعــاء إثيوبيا ســيادتها المطلقة على النيــل )النيل الأزرق( وعدم التزامها بقواعد الاســتخدا­م المنصــف وعدم الإضرار بحقوق الغير إن هي قامت بالملء الثاني للسد دون توافق مع دول المصب. لمصر سياسة متوازنة وسلمية أساسها التفاوض وصولا إلى ضمان الأمن المائي لشــعبها ومصالحه المشروعة فــي مياه النيل. لمصر حق على مواطنيهــا جميعا، دون تمييز بين مؤيد للحكومة ومعارض ســلمي لها، يتمثل في شــد أذر المفاوض المصري والعمــل معه على حشــد التأييد الإقليمي والدولي، حكومي وشعبي، لقضيتنا العادلة.

عن نفسي، لن أتأخر أبدا.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom