Al-Quds Al-Arabi

آينشتاين وإسرائيل: الوطنية الضيقة وتناقض فكرة الدولة

- ٭ كاتب جزائري

■ لقــاء تاريخي جمع بين محمد حســنين هيكل وآينشــتاي­ن في منزله في برنســتون فــي الولايات المتحدة يــوم 12 ديســمبر/كانون الأول عام 1952، ولنتأمــل التاريــخ إنــه اســتثناني، أي إبــان ثــورة يوليو/تمــوز1952، تحــدث هيكل عن دوافع ســفره إلى الولايــات المتحــدة، وكان يومهــا رئيس تحرير مجلة «آخر ســاعة» فحددها في نقــاط ثلاث، أولها تغطيــة انتخابــات الرئاســة الأمريكيــ­ة. وثانيهــا اســتطلاع الآراء حــول أثــر ثــورة يوليو فــي العالم وفي أمريــكا والأمم المتحدة. والنقطة الثالثة متابعة صفقــة الســاح الأمريكيــ­ة المصرية، لكن الأقــدار رتبت لهيكل حدثا اســتثنائي­ا يحســده عليــه كل ســكان الأرض، إنه اللقــاء بالعالم آينشــتاين وقصة اللقــاء كما يرويها هيــكل، أنه جمعه غــداء مع محمــود عزمي، الــذي غدا في مــا بعد مندوبا لمصــر لدى الأمم المتحدة، ومات بالســكتة القلبية من على منبر مجلس الأمــن عام 1954، والســفير جلال عبد الرازق وبعض أعضاء الســفارة المصرية، واقترح عزمي علــى هيكل لقاء آينشــتاين مــادام في زيــارة إلى برنســتون، وأضاف مؤكدا: «آينشتاين أعظم الأحيــاء فــي عصرنا». صدفــة أخــرى جمعت بين هيــكل ولويس عــوض الذي كان يــدرس في أمريكا وفي برنستون فقد التقى هيكل في مطعم الجامعة، وحثــه على لقــاء العالم وأضــاف: «آينشــتاين هو الخالد الأكبر من أهل هــذا الزمن الذي نعيش فيه.» وعن طريق مندوب مــن وزارة الخارجية الأمريكية، حصــل هيكل علــى موعد مــع العالم الكبيــر الثالثة ظهرا من يوم 12 ديســمبر علــى أن لا يتجاوز اللقاء الربع ســاعة أو النصف ســاعة، على أقصى تقدير، وأثنــاء ممارســة العالم لرياضة المشــي فــي الغابة المجــاورة لمنزله، وقبــل هيكل على مضــض فقد عد الشروط قاسية وشبهها بمعاهدة فرساي.

استقبل آينشتاين هيكل في منزله ووصفه هيكل حين رآه لأول وهلة: «ملابســه لا علاقة لها بجســمه كأنهــا صنعت منذ عشــرات الســنين لرجــل غيره، ثــم اختلفت مقاييســها مع الزمن مع حجم لابســها الآن» لقاء عفوي تخلى فيه عن الرســميات كعادته، وهو رجل معــروف عنه التلقائية والبســاطة وعدم العنايــة بالأناقــة، وما أكثــر الصور التــي أخذت له يبدو فيها بملابس لا تناســب عالما جليلا هزّ عروش الفكــر والعلم في القرن العشــرين، حتــى غدا أعظم شــخصية علمية في التاريخ، بلســان أعلام عصره. ســأل آينشــتاين هيكل عن عبارة قرأهــا في جريدة أمريكيــة ـ وهي تصريح لهيــكل - عقب ثورة يوليو 1952 وفحواهــا «أن نجيــب لم يصنع الثــورة، لكن الثورة في مصر هي التي صنعت نجيب» وأن نجيب ما هو إلا واجهة، وأن الســلطة في يد شــخص وجد صعوبة في تذكر اسمه، جمال عبد الناصر وصادق هيــكل على هذا الــكلام ، ثم أردف: مــا الذي تنوون فعلــه بأهلي؟ أهلي مــن اليهود الذين يعيشــون في إسرائيل. وخرج الرجلان يمشــيان في كنف الغابة المجاورة حيث تعرت الأشــجار كالعادة من أوراقها ورسمت لوحة سيريالية لألوان تتراوح بين الصفرة والدكنــة، بعضها رطب وبعضها يابس وتلك تقاليد الشتاء من لدن الطبيعة.

إن الكثيريــن يعرفــون أن آينشــتاين مــن أصول يهوديــة مــن جهــة الأم والأب، ولعــل الكثيريــن لا يعرفون أن آينشــتاين رجل العلم حاول المســاهمة في حــل الصــراع العربي الإســرائي­لي فــي بدايته، مدينــا كل أشــكال العنــف، قــال لهيــكل بصريــح العبــارة: «اهتمامــي باليهــود إنســاني وكذلــك اهتمامي بإســرائيل، إنني عشــت معهم ما تعرضوا له في ألمانيا قبل الحرب، عشت معهم بدايته، لكنني تركتهــم مبكرا وخرجــت قاصدا هــذه البلاد، جئت أمريــكا أول مرة فــي صحبة حاييــم وايزمان، كان وقتها رئيســا للوكالة اليهودية، وأصبح بعدها أول

رئيس لدولة إســرائيل، مجيئي إلى هنــا أول مــرة ســنة 1921 كان مــع وايزمان». إذن جاء آينشــتاين إلى أمريــكا مع وايزمان لجمــع تبرعات للجا معــة العبريــة فــي القــدس، وواضــح أن العالم الكبير لم يكن ضد إنشــاء وطن قومي لليهود في فلســطين، بل رحب بذلك على أساس أن الوطن يجمع الشــتات اليهودي، ويخفف من وطأة العنف والنبذ والتمييز ضدهم، لكنه أضاف: «لا أريدهم أن يضطهدوا أحدا، فعرب فلسطين لهم حق في الوطن الوحيــد الــذي عرفــوه، لا يســتطيع أحــد أن ينكره عليهــم». رأى آينشــتاين أن الصــراع الفلســطين­ي الإســرائي­لي هو صراع بين حقين، فمن جهة الوعود التوراتية والجانب الإنســاني الــذي ينظر به العالم إلــى المأســاة الإســرائي­لية - وقد كانوا يســتدرون عطف العالم بذلك - عبــر التاريخ، ومن جهة أخرى حق الفلسطينيي­ن في أرضهم التي لم يعرفوا غيرها، لعله آمــن بفكــرة الدولتين مبكــرا أو بدولــة ثنائية القومية يتعايش فيها الفلسطينيو­ن والإسرائيل­يون جنبا إلــى جنب بلا عنــف، ولا دم، لقد قال صراحة بمناســبة إعــان قيــام دولة إســرائيل فــي 1948: «أســعدني قيام دولــة يهودية وأحزنني الإســاءة التي تعرض لها العرب في فلســطين» لكن تصوراته للمسألة غدت شاعرية أو مثالية، فسرعان ما وقعت مذبحة دير ياسين، وشعر العالِم بالخجل، ووصف بيغــن بالســفاح، ورفــض لقــاءه في بيتــه لما طلب الأخير لقاءه بمناسبة زيارته لأمريكا عام 1948.

آينشتاين والعنف الاسرائيلي

لم يتنكر آينشــتاين ليهوديته، لكنه شدد على أنه يهودي بالمعنى الإنســاني: «يهودي، نعم أنا يهودي بالطبــع وبالمعنــى الإنســاني، صهيونــي لا أعرف، إســرائيلي لا أظــن، أتعاطــف مــع الفكــرة إنســانيا وأخشــى من عواقــب تنفيذهــا عمليــا، لأن الوطنية الضيقــة قــد تحولهــا إلى بــؤرة عنــف تتناقض مع الفكرة .»

ومنــذ أن اســتقر في أمريــكا بصفــة نهائية منذ 1933 ظــل يدعــو إلى نبــذ العنف والحــوار ويحذر من خطــورة الأنظمــة الشــمولية والفاشــية مع أن النازيــن لــم يتعرضوا لــه، ولم يمســك بدليل أنهم يريدونــه كما صرح لهيــكل. إن الذي كان يخشــى منه العالِم قــد وقع، فالعنف الإســرائي­لي والإبادة الجماعية والمذابح المستمرة التي نفذتها الهاجاناه، نســفت فكــرة الســام الذي آمــن به وقضــت على الحلم الذي حلم به في إبانــه، فتخوفه من الوطنية الضيقة حالت دون تحقيق حلمه في السلام الدائم والعادل.

ظــل العالِــم نابذا لفكــرة الحرب محــاولا تجنبها ما أمكن عــن طريق دعم الحوار والتعايش، وســعى

للتوســط بين العرب واليهود، لكــن محاولاته باءت بالفشــل لقد بدا للكثيريــن مثاليا، وربمــا حالما، هو طراز خاص من البشــر يضع الروح الإنسانية والمثل الأخلاقية فــوق كل اعتبار، لقد قــال لهيكل صراحة إنــه ليس متدينا، إن اليهودية بالنســبة له هي ثقافة وحضارة وإنســانية، وإنه يكــره الحرب لأنها تعني عســكرة المجتمع، وفكرة الحرب ذاتها تقتل الحرية. إن العســكر يأخذون أحســن ما في الأمة من شباب في مؤسســة الحرب، ويأمرونهم بالقتل، ولا مخرج لهــم إلا بالطاعة، لأنهــا قواعد الوطنيــة الضيقة، إن أخطر مــا فيها تــرك القضية في يد الجنــرال، حيث يرتهــن العلم للحرب والأدب والفن للسياســة، وفي ذلــك موت للحريــة. وقد قال صراحــة لوايزمان إنه يريد وطنا لليهود في فلسطين قبل سنة 1948: «لكن لا أتمنى ذلك على حساب شقاء العرب الفلسطينيي­ن، وحــن أجابنــي وايزمــان أن الله وعد اليهــود بهذه الأرض، كان ردي عليــه أننا يجب أن نترك الله خارج هذه المناقشــة، فالكل يرى أن الله معــه، إذا كان الله قــد أعطى اليهــود وعدا في فلســطين، فإنه هو الذي أسكن الفلسطينيي­ن فيها.»

لكــن كان فــي جعبته مفاجــأة كبيرة فــي انتظار هيكل، أخرج العالِم خطابا من حكومة إســرائيل من طريق آبا إيبان سفير إسرائيل في أمريكا، تقترح فيه الحكومة على العالِم رئاســة إســرائيل ثم رده يعتذر عن قبول العرض لكبر سنه، وعدم صلاحيته للمهام الرســمية. وطلب من هيــكل نقل الرســالتي­ن لتكونا دعما لــه حين ينقل رســالته الشــفوية إلــى القيادة المصرية، أي أن الرجل على صلة بساســة إسرائيل، وأنه يمكن أن يلعب دور العامل المســاعد في تحقيق الســام. يعرج هيــكل في حديثه مع آينشــتاين على الصــراع النووي المســلح ومســؤوليت­ه فــي صناعة القنبلة، فينفي العالم أي صلة مباشرة له بالموضوع، اللهم إلا لفتته في نظرية النســبية إلى إمكانية تفتيت الــذرة، وتحريــر الطاقــة وهو مــا انتبه إليــه الألمان، وبــدأوا في معالجة اليورانيوم، بعد أن نجح العالمان الألمانيــ­ان أتوهاهــن وستراســما­ن في تكســير ذرة اليورانيوم، هنا كتب رسالة إلى روزفلت يدعوه فيها إلى البدء في إنتاج القنبلة قبل النازيين إنقاذا للعالم، واســتجاب روزفلــت وبــدأت أمريــكا في مشــروع نيومكسيكو وصنعت قنبلتها، التي استخدمتها في هيروشــيما فناغازاكــ­ي حيث لم يكن هنالك مســوغ لذلك، فاليابان كانت مستســلمة لا محالة - تسربت أخبــار من مجلــس الأمن عن طريق منــدوب الاتحاد الســوفييت­ي أن أمريكا فعلت ذلك لإرهاب الروس - هنا شــعر بالذنــب ولو من طريق غير مباشــر، ودعا إلى حكومة عالمية تتولى الســاح الذري غير الروس والأمريكيي­ن، فالحل نزع الســاح النووي تماما لكن ذلك كان حلما بعيد المنال.

ظــل العالِم يدعو إلى الســام، بل دعــا إلى رفض الخدمة العسكرية، والتمرد على الجنرالات، لأن ذلك كفيــل بدفع الدولة إلى التراجــع عن قرارات الحرب. وقد تعــرض لحملة مــن قبل بعض أعضــاء مجلس الشــيوخ متهمين إياه بأنه أجنبي، وثانيا يتدخل في مــا لا يعنيه، وثالثا يعرض أمــن أمريكا للخطر. وفي ذلــك الإبان عرف ما ســمي بثورة العلمــاء ومحاكم التفتيــش التــي أقامتها أمريكا لمتابعة المشــكوك في أمرهم، حيث تعاون بعضهم بمعية بعض اليساريين مع الروس، وســلموهم أســرار القنبلــة، لا طمعا في مال، بل لراحة الضمير حتى لا يكون هذا السلاح في يد دولة واحدة، ومنهم العالم كلاوس فوخس الذي حكم عليه بـ20 ســنة ســجنا، وروزنبــرج الذي أعدم بالكرسي الكهربائي.

الموقف من عملية السلام

أخيــرا في تواضــع العالم قال لهيــكل، إن الناس يقدرونــه أكثــر مما يســتحق وهــو يتمنــى أن يكون مــا قدمه لصالــح العلم وللإنســان­ية، وأضــاف أنه لــم يخــرج نظرية النســبية مــن وراء مكتــب، بل من خلال تأملاتــه الحرة فــي الطبيعة، وصــادق تماما علــى فكرة برتراند راســل، أن المعادلة الرياضة التي تصوغ القانون الطبيعي هي نتاج الإرادة الإنسانية، والخيــال الطليق والبحــث العميــق للموضوع الذي ينتهي إلى تصور مترابط يعرض على الاختبار.

هل هي حكايــة أرخميدس في الحمام؟ وخروجه عاريــا ينــادي وجدتهــا وجدتهــا، صحيــح لا تولد الأشــياء من عــدم، بل هي نتيجة مخاض عســير من التفكير والتأمــل تنتهي إلى ذلك الإلهام اللدني الذي يفتح على الإنسان فيوض النور وإشراقات المعرفة.

ماذا كانت نتيجة لقاء هيكل بآينشتاين، لقد حمله رســالة شــفوية إلى محمد نجيب وإلى عبد الناصر، الذي كان ينســى اسمه بســرعة، هل هما مستعدان للســام؟ ومــا هــي شــروطهما؟ وما هو الأســلوب الذي يجدانــه كفيلا بتحقيــق ذلك والجهــة الدولية الوســيطة ؟ وإن كانا كذلك فهو سيســعى عن طريق مــن يعرفهم مــن يهود علــى غير شــاكلة بيغن )كان العالِــم الكبير يثق في بن غوريــون ويصفه بالطيب( لحل الصراع العربي الإســرائي­لي. لــم تجب القيادة المصرية آينشــتاين فقد كان العنف الإسرائيلي سيد الميــدان، ووقعت الغارة على غزة في شــباط/فبراير 1955 وربما شعر بالخجل. لكن أثناء لقاء نهرو بعبد الناصر عام 1953 كشف نهرو عن رسالة تسلمها من برتراند راســل من آينشتاين ليســلمها لعبد الناصر يتســاءل فيها عــن مصير الرســالة التــي بعثها مع صديق لعبد الناصر.

الجميل فــي لقاء هيــكل بالعالِم إنــه نقل الموقف الفلسطيني والعربي بأمانة وصراحة ودقة، وشرح لــه ما خفــي عنه بحكــم انشــغاله العلمــي والتعتيم الإعلامــي الممارس هنــاك، وقال لــه بالحرف»ليس لنجيب ولا لعبد الناصر مشــكلة مــع اليهود كيهود، بل مــع إســرائيل وخططها التوســعية ضــد العرب والفلسطيني­ين .»

لــم يعــش بعدها آينشــتاين طويلا فقــد مات عام 1955 وأخــذ الصــراع العربــي الإســرائي­لي أبعــادا مأســاوية، ووقع ما كان يخشــاه «أخشى على روح إســرائيل من وطن إسرائيل» وتوســع إلى أكثر مما تصوره عقل العالِم الكبير الذي علم الإنسانية معنى الزمان والمكان.

 ??  ??
 ??  ?? بن جوريون وآينشتاين
بن جوريون وآينشتاين
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom