عقاب النرجسي و«استراتيجية فابيان»
■ من أسوأ التجارب الوقوع تحت طائلة شخص يذيق المرء ألواناً من العذاب النفســي غير المبرر، خاصة إن كان يتخــذ غطاء الدماثة والأدب ســتاراً، وفي بعض الأحيان قد يتنكر في ثوب الضحية. فلو وجدت نفسك في وقت ما تحت ضغط نفسي شديد قد يفقدك توازنك، إعلم أنك قد وقعت ضحية لشخص نرجسي عديم الرحمة.
والنرجســي ما هو إلا مريض يجب أن يتلقى علاجا نفسيا مكثفا؛ لأنه يشــكل خطرا كبيرا، ليس فقط على من حوله، لكن على المجتمع. فالنرجســي ليس بالضرورة فرد نشأ على حب الذات، بسبب تدليله في الصغر، بل على العكس، قد يكون الحرمان والمعاملة السيئة التي تجرعها في مراحل تكوينه هي الســبب الرئيسي في تشويه نفسيته. أضف إلى ذلك، النرجســية التي يعتنقها بعض الأشــخاص محاولة للتخلص من إحســاس شــديد بالدونية، واحتقار الــذات، فيهرب النرجسي من ذاك الشعور بالتمسك بأحقيته في نيْل كل ما هو جميل في الحياة، خاصة لو كان على حساب الآخرين.. ولا عجب، فالشعور بالأهميــة والتصوُّر بأنه الأفضل، يعطيه الحق في إيذاء من يشــاء؛ حتى يصل لمآربه.
ومن الأمارات الشــهيرة للشخص النرجســي، احتقاره للآخرين ومحاولاته المســتمرة لتقزيمهم، وســهولة دخوله في نوبات غضب، والشعور بالإهانة من أبسط الأشــياء. أضف إلى ذلك، أن من السهل عليــه إقصاء أي فــرد تحت شــعار: «إما معي أو ضــدي» والمقصود بذلك إما أن يصير ضحاياه تحت ســيطرته المرضيــة التامة، إلى أن يفرغ منهم، أو يتخلص ممن يشــذ بأقصى ســرعة؛ حتى لا يتعرض لفشل جديد، يزيد من إحساســه بالدونية واحتقار ضعفه. مع الأخذ في الاعتبار أن الإفلات من قبضة النرجســي يكون قبل الوقوع تحت سيطرته، وإلا سيكون قد فات الأوان.
ومــن الجدير بالذكر، أن النرجســية المرضية لا يصــاب بها أفراد فقط، بل إن هناك دولًا نرجســية بشــكل مرضي، والذي جعلها كذلك حكام ديكتاتوريون نســجوا حبائل الســيطرة على شعوبهم، حتى أغرقوهم في شــعور النرجســي بالتفوق، وأحقيتهم في الهيمنة، ما يسهِّل عليه إخضاعهم لتطبيق أوامره بدم بارد. وبعيدا عن النموذج التقليــدي لهتلر، مجرم الحــرب الذي أحرق وعذب شــعوب أوروبا عندما استعمرها، هناك دولة أخرى لم يسلَّط على جرائم الحرب التي اقترفتها الضوء، ولم يحاكم أي من قادتها على ما اقترفوه من شنائع. والمفاجأة، أن تلك الدولة الشنعاء هي نفسها الدولة التي تظهر حاليا للعالم في ظل إطار من الدماثة والكياسة، وحب الخير للآخرين، وهي دولة الســاموراي النبيــل والأنيمي والمانجا والتقــدم التكنولوجي المذهــل، إنها اليابــان، التي كان لهــا باع طويل فــي احتلال وإذلال جيرانها من الشــعوب الآســيوية، بدون أدنى رحمة أو شفقة، ولعل أكثر دولة ذاقت لهيب قســوتها الصين إبان الحرب الصينية اليابانية الأولى 1895(، - )1894وإن وصلت وتيرة القسوة والبطش لذروتها خلال الحرب الصينية اليابانية الثانية .)1945- )1937
ولإظهار مدى تلك النرجســية الشــنعاء، يكفي الإشــارة لشنائع الوحدة 731 التي تعد النقطة السوداء في تاريخ اليابان، ولم تستطع محوها من ســجلاتها الدموية حتــى الآن؛ لأنها تخصصت في إجراء تجارب علمية وحشية على البشر.
واليابان ليســت الأولى في ذلك؛ فعلى مرّ العصور والدول الراغبة في التقــدم والتطور تُجرى التجارب على البشــر والحيوانات، مثل التجــارب الشــنعاء التي كانت تجريهــا ألمانيا والولايــات المتحدة والاتحاد الســوفييتي على البشــر. أما بشــاعة اليابان في الوحدة 731، التي تعرف أيضا باســم مختبر الشيطان، أنها كانت تجري هذه التجارب على الأســرى، خاصة الصينيين منهم. وهذه الوحدة نقطة سوداء؛ لأنها لم تكن معمل تجارب، بل معسكرا للتعذيب، تم إنشاؤه عام 1932 أثناء الحرب الصينية اليابانية الثانية. وهذا المعســكر لم يكن إلا نموذجاً مصغرا من حرب شــعواء شنتها اليابان على الصين، حتى أضعفــت مفاصلها، وجعلتها دولة هشــة غير قــادرة على صد العدوان والتخلص منها.
لكن لم تستســلم الصين للمســتعمر الياباني، ووجدت أن أفضل سبيل للتخلص من ســيطرة تلك الدولة النرجسية، هو بذل المقاومة التي تنخر في صفــوف الجيش الياباني حتــى تضعفه تماما، وذلك بتطبيق ما يســمى باســتراتيجية فابيــان Fabian Strategy . وتقضي تلك الاســتراتيجية العســكرية بتجنب الدخول في معارك ضارية، أو اشتباكات مباشرة مع الصفوف الأمامية لجيش العدو، أو حتى الدخول في حرب حاسمة، وعوضاً عن ذلك تستمر في استنزاف العــدو ومراوغته أطول مدى، من أجل إضعاف صفوفه، إلى أن يصير غير قادر على المقاومة. وأســهل وســيلة لتحقيق ذاك المأرب هي عمل مناوشات مســتمرة، ومضايقة العدو بالحول دون وصول الإمدادات له، وحرق مخازنه، والتأثير بالســلب في روحه المعنوية. والجانب الذي يتبنى هذه الاســتراتيجية يجب أن يكــون على ثقة بأن الوقت في صالحه، والتأخير ميزة، وأنه يحــارب على أرضه، أما العدو فهو موجود على أرض غيره، ووصول الإمدادات له مكلف، ناهيك من أنها تصلــه بعد وقت، وقد تتأخر، وأحيانا التأخير ســلبي النتائج، حتى لو كان لمدة ســاعة واحدة. ويلجأ لهذه الاســتراتيجية دوما الطرف الضعيف، الذي تقطعت السبل أمامه لاعتماد استراتيجية بديلة.
وأول من فكر في هذه الاستراتيجية ذات النتائج الأكيدة، سياسي وديكتاتور الإمبراطوية الرومانية كوينتوس فابيوس ماكســيموس فيروكوســوس Verrocosus Quintus Fabius Maximus الــذي أُوكلت له مهمة هزيمــة القائد العظيم هانيبــال القرطاجي في حــرب البيونيق الثانيــة -201 )21قبل الميلاد(، والــذي عبر جبال الألب، وتمركز في جنــوب إيطاليــا، وأذاق الإمبراطورية الرومانية أشد الهزائم. لكن أخذ فابيوس بإضعافه والتأثير في الروح المعنوية لجيوشــه من خلال قطع الإمدادات وحرق المعسكرات ومخازن المؤن وتجويع الجيوش بقطع الإمــدادات الغذائية عنهم. وبعد ســنوات طوال من حرب الاســتنزاف، ثــار قادة الجيــش الروماني على تلك النظريــة وعزلوا فابيــوس؛ لتعجلهم القضاء علــى عدوهم بعد أن ملُّوا طول سنوات المناوشــات، لكن سرعان ما اكتشفوا خطأهم، بعد أن قويت شــوكة هانيبال بتوقف حروب الاستنزاف، فأعادوا تطبيق استراتيجية فابيان، إلى أن قضوا على جيش هانيبال بسهولة. وعلى المنوال نفسه، اعتنق الصينيون الاستراتيجية، وصبروا لأطول فترة ممكنة، خلالها استطاعوا جمع المعســكر الغربي حولهم، واستفادوا من المســاعدات الأمريكية، التي زادت بعد هجــوم اليابان على بيرل هاربور.
وأخيرا، تمكنت الصين مــن إنهاء الحرب بعــد أن هزمت اليابان، الذي استسلم جيشــها وطردته من أراضيها مريضا فيزيقيا ويشعر بالدونية.
الصبر والسعي الدؤوب هو السبيل الوحيد للقضاء على الأهوال، وبالتأكيد، على النرجسيين. أما الاستكانة والتسليم بتفوق النرجسي فيعطيه الفرصة لتكرار شنائعه وزيادة عدد ضحاياه.