Al-Quds Al-Arabi

ردا على د. فيصل القاسم: نعم لقد تخلف العرب بسبب تخليهم عن الإسلام

- د. خالد سليمان ٭ باحث مقيم في كندا

في شــبابي المبكر، وبســبب ما تعرضت له من ظلــم وخيبة وإحباط وقهر على يد أبناء مجتمعي «المســلم» تزلزل إيماني الديني إلى حد بعيد، وســرعان ما انضممت إلى جمــوع العلمانيين المتزمتــن الذين يتخذون موقفا متعاليــاً ومعادياً من الدين، ويعدونه المســؤول الأكبر عن تخلف المجتمع العربي. وقبل قرابة العقدين، شــاءت الأقدار أن أشارك كمختص في علم الاجتماع في مشــروع بحثي يتناول من ضمن مــا يتناول علاقة الدين بالتخلف.

العمل على ذلك المشــروع أجبرني على إعادة قراءة الدين وتتبع دوره في تقدم المجتمعات أو تخلفها من منظور عقلاني منطقي ناضج، بعيداً عن التحيزات الإيديولوج­ية وعن نزق الشــباب وتسرعه. ولذلك فإنني أرى في نفســي بعض الأهلية للرد على مقالة الدكتور فيصل القاسم المعنونة: «هل تخلف العرب بسبب تخليهم عن الإسلام فعلا!» وتفنيد بعض ما جاء فيها من أحكام، لم تخل مع الأسف الشــديد من المغالطة والتعميم وخلط الأوراق!

مفهوم التقدم

في البداية أحسب أن المشكلة الأساسية التي يعاني منها طرح الدكتور القاسم يكمن في المعنى الذي يتبناه لمفهوم التقدم، فمن الواضح أنه يركز على الجوانب المادية والتقنية والعســكري­ة والعلمية، ويكاد يغفل بشكل شــبه كامل الأبعاد الروحية والأخلاقية، التي لا ينبغي بتاتاً التغافل عنها في ذلك المفهوم. فالتقدم الذي أحرزته أمم عديدة

قديمة وحديثــة يذكرها الدكتور القاســم هو تقــدم ناقص في أفضل التقديــرا­ت، هذا إن لم يكن فــي حقيقة الأمر تقدما مشــوهاً، بل ومدمراً، للــذات وللآخر، وللقيم الإنســاني­ة والأخلاقية الفاضلــة، وحتى لمفهوم الطبيعة البشرية، والأمثلة على ذلك أوضح وأكثر من أن تُذكر وأن تعد أو تحصى. ولكن لنضرب بعض الأمثلة من باب التوضيح، ولنبدأ باليونان القديمة، التي يمجد الدكتور القاســم حضارتها المتقدمة التي لم تقم على الدين!

في الواقع لا أدري أي حضارة تلك التي تســتحق الإشــادة والتمجيد بعد أن قسمت الناس إلى سادة وعبيد، وصورت الأعمال اليدوية بوصفها

أعمالا دنيئة مخجلة، لا يجدر بالســادة - التنابل الذين كانوا يعيشــون عالة على عرق الرقيق - ممارستها؟!

وأين هذه الحضارة العنصرية من حضارة الإســام، الذي توسع في التشجيع على إعتاق الرقيق، لاســتحالة تحريرهم فجأة بضربة واحدة لأســباب كثيرة وجيهة، والذي ســمى الرقيق بالمولى، حتى لاُ يعرف من السيد ومن التابع، بل وأمر السيد أنُ يطعم مولاه مما يأكل وأنُ يلبسه مما يلبس وأن يساعده على أداء عمله وعلى إعتاق نفسه، بل إن نبي الإسلام )عليه الصلاة والسلام( الذي اعتبر أن العمل يدخل في إطار العبادة، كان هو نفسه يرتق ثيابه ويصلح نعله ويقوم على خدمة أهل بيته!.

ودعونا نعرج على الصين التي يتغنى الدكتور القاسم بتقدمها، مع أنه يعرف ربما أكثر مني، كما ظهر ذلك جليــاً في عدد من مقالاته في «القدس العربي» عنها، أي خطر تشــكله ويمكن أن تشكله على العالم، فيما يتعلق بحقوق الإنســان تحديدا، بالرغم من كل التقدم المذهل الذي أحرزته في المجالات التقنية والاقتصادي­ة والعســكري­ة. فالصين الجبارة اليوم التي وصلت إلى مســتويات غير مســبوقة من التقدم المادي تعبّر عن حضارة متوحشة بلا دين ولا روح ولا قلب ولا ضمير ولا أخلاق، فالبشر بالنسبة لها مجرد روبوتات ينبغي مراقبتهــم والتحكم الكلي بهم، ويمكن بالطبع التضحية بهم! فأي تقدم هذا الذي حققته الصين دون الدين؟!

والأمر قد لا يختلف من حيث الجوهر بالنســبة لليابان التي لا تكترث كثيرا بالدين، وإن اختلفت الملابســا­ت. فعلى الرغم مــن وداعة اليابان وســلميتها - والتي أصبحت بالمناســب­ة وديعة ومســالمة رغم أنفها بعد قصفها بالقنبلــة الذرية على يد دولة أخرى «متقدمة» يشــاع إنها لا تعبأ كذلك كثيــرا بالدين- وعلى الرغم من التقدم شــبه المعجز الذي أحرزته على صعيد التقانة والتنظيم، إلا أنها تعاني من أعلى معدلات الانتحار في العالم!. فأي تقدم هذا الذي ســجلته اليابان ويمكن الاعتداد به والسعي لتقليده من غير الدين، وعشــرات الألوف من أبنائها يلقون بأنفسهم في أحضان الموت كل سنة، هرباً من ضغوط الدراسة أو العمل أو خواء الحياة وافتقارها إلى الطعم والمعنى؟!.

أمــا دول الغرب التي يقــال إنها تحررت من الديــن، فحدث ولا حرج، فالتقدم المشبوه الذي شــيدته جاء فوق أشلاء ملايين الضحايا من أبناء البلاد التي احتلتها وســطت على ثرواتها، وما تزال تنهبها وتســتعبده­ا وتمتص دماء شــعوبها بشــكل أو بآخر حتى هذه اللحظــة!. وحتى إذا ما نظرنا إلى البلــدان الغربية «المتقدمة» التي يخلو ســجلها أو يكاد من الجرائم الاستعماري­ة، فإننا نجدها تغرق في مستنقعات الضياع الأخلاقي والروحي.

وليس صحيحاً أبداً كما يدعي عزيزنا الدكتور القاسم، ومن قبله المفكر شكيب أرسلان، أن الدين لا علاقة له بتقدم الأمم وتأخرها. فالدين هو من أهم عوامل التقدم أو التخلف، وإن لم يكــن العامل الوحيد بالطبع، تبعاً لطريقة فهمه وتطبيقه. فعلى ســبيل المثال، التخلف المــروع الذي عانى منه الغرب فيما تُعرف بالعصور الوســطى كان إلى حد بعيد بسبب الفهم المنحرف المنغلق للدين من جانب الكنيســة. التي هيمنت على كل مناحي الحياة أيامهــا، وطاردت العلماء ونكلت بهم إلــى درجة إحراقهم أحياء، بعد اتهامهم بممارســة السحر الأســود والشــعوذة إذا ما تجرأوا على الإتيان بما قد يتعارض مع الأســفار المقدسة، التي كانوا هم وأسلافهم قد تولوا تحريفها وإتخامها بكثير من الخرافات والأساطير المجافية للـــعلم والعـقل.

قيم البحث والاكتشاف

في المقابل، نجد أن الدين الإســامي قد لعب دوراً محورياً في الدعوة إلى تفعيل قيم البحث والاكتشــا­ف وتحري الدقة والموضوعية والتفكير وإعمــال العقل، ويبدو ذلك جلياً في مئــات الآيات والأحاديث التي تحث علــى تبني مثل تلك القيم. وهــو ما أفضى إلى تلك النهضــة العلمية غير المسبوقة التي مكنت المســلمين ذات يوم من التربع دون منازع على عرش التقدم العلمي العالمي، بالانطلاق من رؤية إنسانية أخلاقية.

والحق إن المســلمين لم يبدأوا بالانزلاق إلى وهاد التخلف والانحطاط إلا عندما ابتلوا بحكام فاسدين، شوهوا الدين ولم يأخذوا منه إلا قشوره، وكان مــن الطبيعــي أن يناصبوا هم ومشــايخهم تلك القيــم العقلانية التنويرية التي أكدها الإسلام العداء، وذلك لضمان تركيع الناس وإدامة اســتعباده­م بتحويلهم إلى قطعان جاهلة مخدرة مدجنة، تكاد تنسحب بشكل شبه كلي من الدنيا وتزهد في الاهتمام بشؤونها العامة!.

من زاويــة أخرى، ينبغي التنبه إلى حقيقة مهمة تنســف ذلك الادعاء المتهافت الذي ينفي علاقــة الدين بالتقدم والتخلف، مفادها أن الكثير من الــدول التي تقدمت قد انطلقت في تقدمها، المــادي عموما، بالاعتماد على مرجعيات فكريــة وإيديولوجي­ة حلت محل الدين ولعبت دوره باحتراف شــديد، كما حدث في بلدان المعسكر الشيوعي، مثل روسيا والصين، وفي

ألمانيــا إبان الحقبة النازية. فالفكر الشــيوعي والفكــر النازي صارا في عرف أبناء تلك الدول بمنزلــة الدين المقدس، وأصبحت تعاليمهما بمثابة الفروض الإلزامية والطقوس الإجبارية، وبات الحاكم يشــغل عمليا دور النبي الملهم، وربما الإله المعظم، كما في حالة لينين وســتالين وهتلر وماو تسي تونغ!.

إن الدين الإســامي يجسد ولا شك الشــرط الضروري الأهم لنهوض العرب اليوم، لأنه وحده القادر على ضمان نهضة حقيقية متوازنة تجمع بتناغم بين المقومات المادية، ونظيراتهــ­ا الروحية والمعنوية والأخلاقية. وبدون الاحتكام إليه بشــكل جدي وشــامل، قد يمكــن، وبجهود جبارة خارقة، أن يقلد العرب هذه التجربة أو تلك من تجارب الدول التي تسمى دولا متقدمة. غير أنهم لن يصلوا عندها، على افتراض نجاحهم المشــكوك فيه بسبب تخلف حكامهم وعمالتهم، إلا إلى نهضة زائفة مفبركة، أو نهضة مبتورة قاصرة في أحسن الحالات، كما هو شأن كل تجارب النهضة المادية الحديثة، التي تتجاهل الاعتبارات الروحية والأخلاقية.

بالإضافــة إلى ذلك، لقد كان من الأســباب المركزية لاســتمرار تخلف البلــدان العربية عجزها الصارخ عن تطبيق منظومة متماســكة متكاملة للتقدم، حتى بالمعنى المــادي لمفهوم التقدم. حيث تورطــوا في انتقاء أو اســتحضار أفكار غير متســقة مع بعضها البعض، إلــى درجة التناقض والتصادم في حالات كثيرة. فخلطوا وبشــكل شنيع بين أفكار اشتراكية ورأســمالي­ة ودينية غير متجانسة، حتى أصبح حالهم حال الغراب الذي أراد تقليد الحمامة في مشــيتها، ففقد هويته، وبات كالمسخ الذي يستثير الرثــاء، إذ لم يتمكن من تقليــد الحمامة، وعجز عن العودة إلى ســابق عهده!.

إن مــن الثابت أن الدين الإســامي هو الذي قاد العــرب كي يتقلدوا تلك المكانة التاريخية الرفيعة التــي تقلدوها بين الأمم، والتي لم يحلموا ولو ببعضها في جاهليتهم الهمجية. أمــا وقد عادوا اليوم إلى الجاهلية، بفرقتهم وتناحرهــم وتظالمهم ونفاقهــم وفســادهم وإتباعهم خطوات الشيطان، فقد حكموا على أنفســهم بالبقاء في بركة المياه المتحركة التي تجذبهم نحو السقوط أعمق وأعمق في المزيد من التخلف والانحطاط!.

فنعــم يا عزيزي القاســم، لقد تخلف العرب فعلا بســبب تخليهم عن الإسلام!.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom