Al-Quds Al-Arabi

مماحكات وهمية في سبيل هدف واحد

- *كاتب بحريني

إنها اللعبة إياها.. تتبدل الساحة ويتبدل الموضوع، لكن الهدف لا يتبدل.. المهم هو أن تظل أمــة العرب في أجــواء الصراعات الفكرية أو السياســية أو الدينية، أو فــي لغــط التجاذبات حول هوية الأمــة، أو نوع الأيديولوج­يــة التي تحكم حياتهــا. والمهم هو أن لا يستطيع الإنســان العربي أن يركز ذهنه وإرادته ونشاطه في مسالك النهوض والتقدم والقوة الحضارية.

ومن أجــل تحقيق ذلك تجيــش قوى الدس والكــذب والتلاعــب بالألفاظ، وخلط الســم بالعسل الاستخبارا­تية، عبر وسائل التواصل الاجتماعــ­ي، وينبــري الكتبــة المغمــورو­ن الزبونيون المتطفلون، بدس أنوفهم واستدعاء جملة قيلت منذ قرون، أو موقف لسياسي أحمق في أزمنة غابرة، أو حــدث تاريخي لا يمت بأي صلة لمجريات أيامنا الحالية، وبالطبع تنشــغل مراكــز البحوث وكبــرى الصحف ووســائل الإعــام في بعــض عواصم الاســتعما­ر، وفي الكيان الصهيوني لتدعــي، كذباً وبهتاناً، الفهم الموضوعي لكل ما يجري في بلاد العرب، وأنها تسمي الأشياء بمسمياتها الصريحة الواضحة.

هذا ما نراه الآن أمامنا من كتابات ومناقشات إعلامية، وعواطف هائجة، تجاه موضوع بالغ البســاطة والوضوح في رمزيته: نقل مجموعة من مومياوات العصــور الفرعونية من متحف قديم إلى متحف جديد. المومياوات هي نفســها التي كانت راقدة عبر ســنين طويلة في المتحف القديم، وقيمتهــا التاريخية لن تتغير، وارتباط مصــر الفرعونيــ­ة القديمــة بمصــر العربية الحديثة، ســيبقى من ظواهر الزمــان والمكان التاريخيــ­ة لمصر ولأمتهــا العربيــة ولوطنها العربي الكبير.

لكــن، هــل يعقــل أن يســمح الاســتعما­ر والصهيونية وجهالات وبلادات البعض لمناسبة كهذه أن تمر بسلام وطني وقومي عروبي رائع، ســتفاخر به كل الأجيال في مصــر وكل أرض العرب؟ الجــواب هو كلا وألــف كلا، فالمطلوب هو الاســتمرا­ر فــي تفريغ ذاكرة شــعب مصر العربي الشقيق، والذاكرة العربية الجمعية من الأفكار والمواقف والنضالات البطولية القومية العروبية لمصــر، وعلى الأخص الناصرية منها، وتســفيهها، وجعل كل أســباب المشــاكل التي يواجهها القطر المصري حالياً راجعة إلى إصرار مصر الرائع المسؤول على الالتزام بمسؤوليات قيادة الأمــة العربية نحو وحدتها وتحررها من الاستعمار ونهوضها الحضاري، وإلى استعداد مصر السخي في العطاء والتضحيات وتحمل ما لا يستطيع غيرها تحمله.

لنأخــذ اللغط الآخر بشــأن بدعــة تكوين وتأليــف وتزيــن الدين الإبراهيمـ­ـي الجديد. فجأة يراد لدين الإســام والدين المسيحي أن يتراجعا دينيــاً وثقافياً إلى الخلف، ومع الزمن أن يختفيــا، ليحل محلهما مشــروع دين جديد مليء بالمغالطات التاريخية والرفض المبطن لما جاء به عيســى عليه السلام، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم. بعد ذلك لن يكون لديني الأمة الأساسيين دخل بفلسطين وبالقدس وبكنائسها وبمســجدها الأقصى، ومنها ســينتقل العرب والمســلمو­ن إلى قبول الاســتيلا­ء الاستعماري الاســتيطا­ني الصهيوني على فلسطين العربية وما حولها والتعايش مع الأساطير والخرافات التي تروجها الصهيونية باسم الدين اليهودي، من أجل جعل غزوها وســرقتها لفلسطين ليس أكثر من تتمة لذلك الديــن المتخيل. وهكذا، من لغط الهويــة والالتزاما­ت القوميــة، إلى لغط الديــن وإبعاده عــن الخالق والحــي الإلهي، والكتــب الســماوية، وجعله روايــة تاريحية مليئة بالخيال وعناصر الأدب. ومن اللغط حول الهوية والدين يبدأ لغط السياسة. فجأة هناك مؤامرة على نظام الحكــم في الأردن مكونة من رغبات استعمارية، وأحلام صهيونية وطفولة تدخلات عربية.. والهــدف؟ دفع الأردن لقبول صفقة القــرن المجنونة، ولأن يكون وطناً بديلاً، ولأن يقبــل بأن يكــون مكاناً آمناً لــكل تنظيم استخباراتي، أو إرهابي لتدمير ما يراد تدميره في طول وعرض بلاد العرب، ومن ثم شــعوره بالضعــف والهوان، وبالتالــي الكفر بعروبته وانتمائــه القومــي، واندماجــه التدريجــي بألف شكل وشــكل في المشــروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين وباقي أرض العرب.

ثلاثة أمثلة في سلســلة طويلة من مؤامرات الخــارج الاســتعما­ري الصهيونــي والداخل الفاســد الاســتبدا­دي، بدءاً بإثارة الصراعات الطائفية، والخلافات القبلية والنعرات العرقية بين الحين والآخر، ومروراً بمثل الأمثلة الثلاثة الحالية، ومن دون أن يكون في الأفق ما يبشــر بنهاية تلونها، تماماً كتلون الحرباء السامة.

الهدف واحد... المهم أن يظل العرب في أجواء الصراعات الفكرية أو السياسية أو الدينية، أو في لغط التجاذبات حول هوية الأمة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom