Al-Quds Al-Arabi

الكاتب في بيت بطلته!

-

كان يوم الخامس من نيســان/ أبريل الجاري يوماً غير عادي بالنسبة إليّ، لأنه شهد لقاء غير عادي؛ كان عليّ أن ألتقي خلاله ببطلة روايتي، ولم تكن البطلة شــخصية ما، بل مدينة بأكملها، وأعني هنا «بيت ســاحور» التي شكلّت واحداً من أنصع الوجوه المضيئة في الانتفاضة الفلســطين­ية الأولى، التي لم تزل نفسها تشكل أنصع وجوه النضال الفلسطيني منذ عام 1987.

تجربة بيت ســاحور تلك، التي استلهمتْها رواية «دبابة تحت شــجرة عيد الميلاد» مختلفة لأســباب كثيرة. كنت أطوف حول المدينة منذ صدور الرواية كما يطوف عاشق حول بيت حبيبته، ليعرف وقْعَ رسالة قلبه التي أمضى 29 سنة بين كتابتها، وإن كان الحبيبُ شابَ وظلّتْ الحبيبة شابة مضاءة بأجمل ذكرياته عنها، وذكرياته معها.

سعى الأصدقاء في بيت ســاحور، عقب فوز الرواية بجائزة «كتارا» في تشــرين الأول/أكتوبر الماضي، للاحتفال بهذا الفوز، لكنني طلبت أن يكون اللقاء بعد قراءتهم للرواية، ولحسن الحظ لم يتأخر وصولها عبر طبعة خاصة بفلسطين.

كان أكثر ما يشغلني: كيف سيرى أهل المدينة أنفسهم في مرايا الروايــة المتعددة، التي لم تتوقف عنــد تجربتهم في الانتفاضة الفلسطينية وحسب، بل مضت لحكاية المدينة منذ بداية الحرب العالمية الأولى.

فــي الماضي! لم يكــن الأمر مثيــراً إلى هذا الحّــد حين ألتقي جمهوراً لمناقشــة رواية لي، فزمن الخيول البيضاء، بقدر ما هي عن قرية ابتكرتْ اســمها الخــاص بها، إلا أنها عن فلســطين ما قبل النكبة، ولم يكن يشــغلني فيها شيء مثلما شغلتني قراءتي لشــخصية ودوْر فــوزي القاوقجي، الذي كانت صــوره تعلّق في بيوت الفلســطين­يين واحداً من أبطــال ثورتهم الكبرى، وإذا بالرواية تقلب الصورة تمامــاً، وتقدّمه واحداً من القيادات التي كانت السبب في ضياع فلســطين، مثله مثل أي قيادة عربية في ذلك الزمان.

ما حدث أن أحداً لم يعتــرض على أطروحة تلك الرواية حتى اليوم، وبعد عشــر ســنوات من صدورها ظهرت كتابات بحثيّة تؤكد ما جاء في الرواية.

في روايات أخرى تحدثت عن مدن مثل: رام الله، غزّة، عمّان، وغيرها، ولــم تكن هناك مشــكلة، فهذه مدن يمكــن أن يصول فيها الكاتب ويجول لأن تكوينهــا الاجتماعي متعدد في طبقاته وأصولــه، وميوله السياســية، ولم يعد باســتطاعة الناس أن يعرفوا بعضهم بعضاً فيها رغم ابتلاعها لهم.

وفي رواية مثل «قناديل ملك الجليل» كان الأمر يتعلق بالقرن الثامن عشــر، وفي النهاية يمكن أن يحاورك مؤرخون في هذا، فتتفــق معهم أو تختلف. لكن مدينة صغيرة كبيت ســاحور كان عدد سكانها في الانتفاضة الأولى لا يزيد على عشرة آلاف نسمة، جعلها أشبه ما تكون بعائلة كبيرة ممتدة.

هذا الأمر بالذات هو مــا كان يقلقني طوال عملي على «ثلاثية الأجراس»، و»دبابة تحت شــجرة عيد الميلاد» عمودها الفقريّ، ولــي في المدينة وخارجها صديقات وأصدقــاء، كاتبات وكتاب، وباحثون ومؤرخــون ومثقفون بــارزون، كل واحــد منهم له مساهمة بارزة في الكتابة عنها.

لهذا كله، كان اللقاء بمثقفي بيت ساحور الذي نظّمه «الديوان الثقافي السّــاحوري» فريداً، ومثيراً بالنسبة إليّ، وفي ذاكرتي كثير من أســئلة اللقاءات مع قراء متنوّعين فــي العالم العربي، وإلــى ذلك تلك الرســائل التي باتت تصل إلى الكتّاب بســهولةِ توافر وسائل التواصل الاجتماعي.

في لقــاءات كثيرة، وحتى لــو كانت خاصة، ســيوجه إليك ســؤال: هل هذه الشــخصية حقيقية أم خيالية؟ وهو ســؤال خشيت أن يوجه إليّ خلال مناقشــة هذه الرواية، كأن يسألني أحد من هو إســكندر، سلامة، جورج، بشــارة، ومن هي مارتا، كاترين ورولا الصغيرة الرائعة؟ هذا السؤال لم يوجه إليّ! وهذه هي المفاجأة الأولى، بل الكبيرة. لم يذهب أي من المشــاركي­ن في اللقاء مــن أهل المدينة، أو أولئك الذين انضموا للحوار من أهلها، من إسبانيا، أمريكا، ألمانيا، نحو هذا التفصيل الكبير الذي علينا ككتاب أن ندور حول أنفســنا كثيراً ونحــن نجيب عليه، ولذلك تجرأت في النهاية وطلبتُ من المشــاركي­ن في اللقاء أن يعذروني لأنني ساهمت في زيادة عدد سكان مدينتهم، وبما أنهم أحبوهم، فأرجو أن يشملهم تعداد سكان المدينة الجديد في أقرب فرصة!

لم يســألني أحد: هل هــذا الكلام الذي جاء على لســان هذه الشخصية أو تلك، من عندك، أم من عند الشخصية التي قد تكون متوارية خلف اســم غير اســمها الحقيقي، وهذا ما لا ننجو منه ككتاب.

لم يســألني أحد عــن علاقات الحــب، ولا عن بيانــو مارتا وموســيقاه، ولا عن مصير رولا الطفلة، عاشــقة اللغة العربية، بعد الانتفاضة، مع أن الســؤال يؤرقنــي، ولعله بحاجة لرواية أخرى! ولا عن الأحلام والكوابيس، والمشاهد الفنتازية، ولا عن ناحوم- الضابط الصهيوني السّــفاح، ولا عــن التفاصيل التي امتلأت بهــا رواية من 500 صفحة. وهذا مــا لا ننجو منه ككتاب أيضاً.

ما شعرت به أنهم عاشوا ذلك كله، وعرفوا الشخصيات التي باتــت قريبة لهم، وتتحرك أمامهم وإن لــم يكونوا التقوا بها من قبل.

لقد احتضنوا الأحداث والأحلام، الواقعي والخيالي، على كل مســتوى، ولم يتعاملوا مع الرواية كعمل مكتوب عن شخصيات روائيــة أخرى غيرهم، بــل تعاملوا معهــا باعتبارهم هم. وفي هذا الأمــر تفوّقوا على مثقفين يظنــون أن الاعتماد على التاريخ الشفوي مرجعاً، يعني نسخ شــخصيات من الواقع، ولا يخطر ببالهم أن التاريخ الشــفوي مرجع مثــل أي مرجع آخر. حتى أن صديقاً رافقني عدة مرات لزيارة بيت ساحور، وسمع ما سمعتُه من أهلهــا، كان يفكر أنه ليــس بحاجة لقــراءة الرواية، وحين صدرت فوجئ لأن كل ما فيها جديد عليه.

في بيت ســاحور أســعدني هذا الوعي الفنــي الكبير الذي احتضن الرواية كعمــل يتناول جوهر المدينــة، ويحيِّي المدينة وتاريخها، بعيداً عن أي سعي للبحث عن مواز لأي شخصية فيها أو أي حدث أو أي خيال. وبعــــد: من الرواية: «الاحتلال قبيح دائمــًا، ليس عندنا فقط، بل في كلّ مكان، لكنَّ في وجوده دائماً شيئاً عميقاً من جوهر سخريات القدر، وإذا أراد الإنسان أن يواصل القتال دون أن ييأس، فليس هنالك وسيلة أفضل من أن يرى أيّ محتلّ باعتباره خطأ مطبعيّاً فاحشاً في كتاب الزمن».

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom