Al-Quds Al-Arabi

العيون في حطين تحمل صوت رواية كل فلسطين

- حطين ـ «القدس العربي» من وديع عواودة:

بالنســبة لكل العالم نيســان هو شهر الربيع والتجّدد والشــباب، لكنه بالنسبة لمدينة طبرية أقسى الشهور، ففيه اســتبيحت وسال دمها وما لبيت بناتهــا أن لقي المصير ذاتــه وفاز قليل من ســكان الأم وبناتها في البقاء داخل وطنهم ولو مهجرّين. فالفارق بين المهجّــر واللاجئ هو الحّد بين المــّر والأمّر. وقد ولد كاتب هذه الســطور في عائلة ذاقت كلاهمــا، التهجيــر واللجوء، فبقي نصفها في الوطن بينما تشتت شمل نصفها الآخر في الشتات.

نمريــن وحطين شــقيقتان من بنــات مدينة طبرية، أولى المدن الفلســطين­ية التي خرب عليها عالمها في مثــل يوم غد من نيســان/ أبريل 1948 ومنذ عقــود أواظب على زيــارة المدينة وبلداتها فهي قريبة جغرافيا من مكان إقامتي كفركنا، وفي الوقت نفسه قريبة من الروح وتسكن وجداني.

طبرية مدينة ســاحرة تدهش زائرها من أول نظــرة بفضل بحيرتهــا وبســاتينه­ا. في نمرين ولدت جدتي عائشــة والــدة أبــي، ومنها طرد أقاربها إلى لبنان وسوريا والأردن، أما هي فنالت من اللجوء نصيبا بعد نزوح مشــيا على الأقدام فــي عام الزلــزال، وصل بها المســير حتى مخيم النيرب قرب حلب. وشــاء القدر أن تعود جدتي وعصافيرهــ­ا الصغار فيما بقــي زوجها )جدي( عالقا في الأردن بعدما فرقت شــملهم رصاصات «حرس الحــدود» الدولة المحتلة وهــم عائدون لوطنهم خلسة في1950 من ســوريا عبر الأردن، فبقيت العائلة مشــطورةـ نصف الأبناء مع الأب في أربــد الأردنيــة، ونصفها الأخر مــع الأم في كفركنا.

وفي حطين جارة نمرين لنا ذكريات منقوشــة على حجر جليلي صخــر ترتبط بجد والد والدي الحج محمود وبوجدان ذريته، ففيها ما زال ماثلا حتى اليوم مســجد قام ببنائه في عشــرينيات القرن الماضي وفيــه وثق مســاهمته العمرانية بمنقوشة حجرية تحمل شكل أصابع يده اليمنى كانت مفقودة طيلة سنين.

فــي حطين التــي تقــوم علــى أنقاضها ثلاث مستوطنات واحدة منها ورثت اسمها أيضا )كفار حيطيم، كفار زيتيم وأربيل( لم يبق منها ســوى مقبرة دارســة ومســجد قائم على آثار مســجد تاريخي من زمــن صلاح الدين الأيوبي بني غداة الانتصار الكبير على الصليبيين.

يقف المســجد صابرا في انتظار أصحاب الدار منــذ73 عامــا ومن وقتهــا تعرض ثــاث مرات لســطو لصوص عاثوا فيه الخــراب في جنباته بحفريات خطيرة من شأنها خلخلة دعائمه بحثا عن كنوز وســط هجران متعمد. من سطحه تمتد علــى مد النظر غابــات الجليل الأعلــى من صفد إلى بيت جــن وتبان بوضــوح كل مفاتن هضبة الجولان الســورية المحتلة. وداخل ساحات هذا المســجد التقى مئات من فلسطينيي الداخل أمس ومعظمهم من الشــباب والأطفــال لإحياء ذكرى النكبة بموازاة يوم الاستقلال الإسرائيلي.

يوم استقلالكم يوم نكبتنا

هذا العام أيضا وللســنة الرابعة والعشــرين تدعو لجنة الدفاع عن المهجّرين في الداخل لإحياء ذكرى النكبة تحت عنوان «يوم اســتقلاله­م يوم نكبتنا «، وهو عنوان مشــحون بدلالة سياســية كما هو المكان مشــحون بدلالــة تاريخية كبيرة، وكأن فلســطينيي الداخل يقولون إنهم يقيمون اليــوم في دولة ورثــت البيت والبئــر والبيارة والتســميا­ت ولهم فيها مواطنــة فرضتها عليهم لكنهــم لا يحتفلون معها بيــوم ميلادها، مؤذنين رفضها لســرقة روحهم ومؤكديــن على انتمائهم لحضن الأم الطبيعية.

بيــد أن هذا العــام وكالعام المنصــرم دفعت ظروف كورونا لجنــة الدفاع عــن المهجرّين في إســرائيل لإحياء الذكرى بفعاليــات رقمية. لكن الحنــن لحضــن الأم وعناقهــا دفــع الكثير من فلســطينيي الداخل لزيارات ميدانيــة للبلدات المهجــرة برفقة الأبنــاء والأحفاد رغــم الصيف والصيام.

في حطــن صلى هــؤلاء كبارا وصغــارا في المســجد المهجور المتداعي جماعة ولسان حالهم يقول «حب الوطن عبادة» كما يؤكد الشيخ أحمد دحابرة من حطين المهجّر المقيم في القرية المجاورة الناجية من الترحيل، دير حنا، بعدما أدى الصلاة مع آخرين داخل إحدى قاعات المسجد.

بفضل نســاء مبــادرات لهــذه الاحتفالية تم إثراء الزيــارة بفعاليات ثقافيــة وفنية، فقد قام الشــباب والصبايا من الجيلــن الثالث والرابع بتعليق صــور القرية قبل هدمهــا وصور بعض شــخصياتها وصور الأجداد والجــدات وصور بلدتهم حطين على جدران المســجد التي ازدانت بالأعلام الفلسطينية وبالونات بلونها، فيما كان صوت حادي الثورة الراحل ابن القرية المجاورة الســجرة أبو عرب يصدح بصوته الحنون مغنيا لتوتة الــدار، وكل ذلــك في أفياء شــجرة توت عملاقة تظلل المسجد وباحاته. وأكثر ما يسترعي الانتباه كثــرة الشــباب والأطفال المتعطشــن لســماع الروايات التاريخية داخــل المكان المطل على البحيرة في حطين أمس، عن الحياة اليومية في القريــة الغنية بكــروم الزيتــون والليمون بفضل عيــون غزيرة وســخية أبرزها «العيون» و «القسطل» و« عين الليمون .»

في ظلال المســجد روى أبو شــوقي رباح )85 عاما( الكثير عن أيام حطين الوادعة، واســتذكر علاقات التكامــل بينها وبين المدينــة الأم طبرية التي زودت مدرستها بالأساتذة، فيما أخذت منها الخضراوات والفواكه الموسم تلو الموسم.

عنــد تبيان خيرات وبركات حطين يشــير أبو شــوقي الى أن تعداد ســكان حطين لــم يتجاوز الـ 1300 نســمة لكنها كانت تمتلــك أربع معاصر زيتون، واضطر أهلها أحيانا للبحث عن معصرة خارجها، في كفركنا بفضل وفرة وســعة كرومها. وكمــا هو الحــال مــع أرض حطــن الطيبة فإن الأحاديث مع أبناء أجيال ما بعد جيل النكبة تدلل بوضوح كم هي عطشى لسماع وتذويت الرواية التاريخية ومــا أحوجهم إليها، فبــدون الذاكرة الجمعية يفقد هــؤلاء روحهم وهويتهم وذاكرتهم ويغمى عليهم سياسيا.

الأرض خصبة وعطشى للتعبئة والتثقيف

وعبرت عن ذلك الطالبة ريم رباح بنت الصف العاشر التي ســمعت جدها أبو شوقي بكثير من الاعتزاز والفرح وهو يروي لها ولرفيقاتها ملامح الحياة في حطين، معوضا ما تفتقده كتب التعليم المقّرة مــن قبل وزارة المعارف الإســرائي­لية التي لم تتوقف عن محاولاتهــ­ا فصل اللحم عن العظم

وقطع الأغصان من الشجرة الأم بمشروع الأسرلة الخطير. وعلاوة على أبو شــوقي شارك عدد من الشيوخ والســيدات سرد الحكاية وهم محاطون بأعــداد كثيرة من الفتيــان والصبايا ممن كانوا كافتهم آذانا صاغيةـ لكــن حطين ورغم ينابيعها المتدفقة ماء زلالا وذكريات يختلط فيها الحلو بالمر لا تكفي لريّ عطش هؤلاء ممن يحتاجون لتعبئة وتثقيــف أكثر منهجيــة وتنظيما كــي لا تتحقق أمنيــات من راهنــوا على موت الكبار ونســيان الصغار من فلســطينيي الداخل، الذين تطوروا كما وكيفا وزاد تعدادهم من 150 ألف نســمة إلى مليون ونصف مليون اليوم وفيهم تكمن ذكريات ما زالت تقلق الغزاة.

من حطين عدنا بـــشعور مختلط، ففيها عكست

روايات المضطهدين وحكايات المحرومين من مسقط الرأس ومراتع الطفولة والصبــا الجروح النازفة من جهــة، لكننا أغلقنا دائرة صغيرة وشــخصية لكنهــا مهمة: طيلة ســنوات بحثنا عــن حجر في المســجد كان الوالد والأعمام يســتذكرون­ه وفيه نقش بانيه «الحــج محمود» أصابع يديه من تحت كلمتين محفورتــن فيه «بيت الله في حطين» لكننا لم نجده، وبالأمس كشف الشيخ عبد حوراني من حطين المقيم اليــوم في قرية عيلبون المجاورة، أنه وجده مخلوعا قبل سنوات نتيجة اعتداء لصوص الآثار على المسجد فأخذه وأودعه في بيته، وقال» المنقوشــة الحجرية بالحفــظ والصــون تعالوا وأعيدوا تركيبها من جديد في جدار المسجد» وهذا خبر مفرح في يوم أسود.

 ??  ?? مسجد قرية حطين المهجورة المقام على ارضها ثلاث مستوطنات، ترفرف عليه اعلام فلسطين خلال زيارة له في ذكرى النكبة
مسجد قرية حطين المهجورة المقام على ارضها ثلاث مستوطنات، ترفرف عليه اعلام فلسطين خلال زيارة له في ذكرى النكبة
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom