Al-Quds Al-Arabi

الاختفاء القسري في العراق: المزاد وسياسة الإنكار

- ٭ كاتب عراقي

■ تضمــن قانون الموازنــة العامة الاتحاديــ­ة لعام 2021 لجمهوريــة العــراق، نصا يقــرر أن «»تتحمــل كل وزارة أو جهة غيــر مرتبطة بــوزارة المبالغ الماليــة وفوائدها لكل من استشــهد بعد تاريخ ‪2003 4/ 9/‬ جراء العمليات الإرهابية... وذوي المفقوديــ­ن» (المادة 28/ أولا(! وقد عــدّ النواب العرب الســنة في المجلس هذا النص «إنجازا عظيمــا» لهم، وبدأوا باســتخدام­ه في دعايتهم الانتخابية كمثــال على «حرصهم» علــى مصالح جمهورهم. في حين أن النــص يمثل في حقيقته تنازلا غير أخلاقــي عن حقوق هذا الجمهور، من خلال تحويل جريمة الاختفاء القسري، إلى مشكلة أحوال شخصية!، وبدلا من الإصرار على الكشــف عن مصير هؤلاء المختفين قســريا وملاحقة من ارتكبوا هذه الجرائم لتقديمهم إلى العدالة، يقوم هؤلاء النواب بمقايضة ســكوتهم عن هذه الجرائم، برشاوى مالية بائسة لأهاليهم!

يعرّف الاختفاء القســري بأنه: «الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفــي الدولة، أو أشــخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بــإذن أو دعم مــن الدولة أو بموافقتهــ­ا، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشــخص المختفي أو مــكان وجوده، مما يحرمــه من حماية القانون» (الاتفاقيــ­ة الدولية لحماية جميع الأشــخاص من الاختفاء القســري 2006(. وقد عدّ نظام روما الأساسي 1998 جريمة الاختفاء القسري للأشــخاص جريمة ضد الإنسانية )المادة 7/ ط( وبالتالــي فهي تدخل ضمن نطاق الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية وولايتها.

كما أن هذا النظام نفســه قد عدّ، «إصــدار أحكام وتنفيذ إعدامات دون وجود حكم ســابق صادر من محكمة مشــكلة تشــكيلا نظاميا تكفل جميــع الضمانــات القضائية» جريمةَ حــرب وفقا لاتفاقيــة جنيف الرابعــة لعــام 1949 تقع أيضا ضمن اختصاص هذه المحكمة وولايتها، خاصة وان التجارب الدولية، تحديــدا في النزاعات المســلحة غيــر ذات الطابع الدولي، والتي تنطبق على الحرب على تنظيم الدولة/ داعش، أثبتت أن معظم المختفين قســريا لســنوات طويلة قد أُعدموا خارج نطاق القانون!

أما «المفقــود» فهو، بموجب تعريف القانون المدني العراقي رقــم 40 لســنة 1951: «من غــاب بحيث لا يعلــم أحي هو أم ميــت بحكم كونه مفقــودا بناء على طلب ذي شــأن» (المادة ‪1(. 36/‬ وأقصى ما يســتوجبه إعلان شــخص مــا «مفقودا» هو الإجراءات المتعلقة بالأحوال الشــخصية بموجب قانون الأحوال الشــخصية ورعايــة القاصريــن، وبالتالي هو يقع ضمن اختصاص محاكم الأحوال الشــخصية بموجب قانون المرافعات المدنية )المادة ‪6.) 299/‬

المفارقة هنــا ان أعضاء مجلــس النواب الذيــن «هللوا» لهذه المادة، لم يشــيروا مطلقا إلى أنهــم قد وضعوا «رواتب» للمفقودين، بل عمدوا إلى القول إنهم قد وضعوها «للمغيبين» وهي المفردة التي تســتخدم بدلا عن الاختفاء القســري، عن جهل وســذاجة غالبا، وعن تعمد مــن البعض الآخر للتغطية على الجريمة وعدم توصيفها بالوصف القانوني!

خــال ســنوات 2015 ـ 2017 تضمنت تقاريــر بعثة الأمم المتحــدة في العــراق توصيفا لحــوادث الإختفاء القســري للمدنيين؛ فقد أشــار تقريرها الخاص بوضع حقوق الإنسان فــي العراق للمــدة من كانــون الثاني/ يناير إلــى حزيران/ يونيو 2016 إلى أنه «في يومي 4 و5 تقريبا من شهر حزيران/ يونيو ]2016[، فــر آلاف المدنيين من قريتهــم من الصقلاوية بالقرب من الفلوجة … فاعترضتهم جماعة مســلحة مساندة للقــوات الأمنية العراقية، حددها الشــهود بأنهــا من كتائب حزب الله. وقامت الميليشــي­ا على الفور بفصل نحو 1500 من الرجــال والصبيان المراهقــن عن النســاء والأطفال... وفي يوم 5 حزيران تم فصلهم إلى مجموعتين؛ تتكون أحداهما من 605 رجــل وصبي، والثانية من حوالي 900 شــخص. بعد أن تم تســليم المجموعة الأصغر إلى السلطات الحكومية، بما في ذلك جثث أربعة رجال، تبين الصــور التي التقطت لهم لحظة تســليمهم أن أيديهم كانت مقيدة، وبــدا عليهم أنهم تعرضوا للضرب حتى الموت... وتم إعداد قائمة تضم 643 رجلا وصبيا مفقوديــن، فضلا عن 49 آخريــن يعتقد أنهم إمــا أن يكونوا أعدموا تعسفيا أو عذبوا حتى الموت في أثناء الاحتجاز الأولي لدى كتائب حزب الله».

التقريــر يتحدث أيضا عن تشــكيل لجنــة تحقيق يوم 6 حزيــران/ يونيو، بأمر مــن الدكتور حيــدر العبادي رئيس مجلس الوزراء حينهــا، وانه أصدر أوامر صارمة لمحاســبة المسؤولين عن أية انتهاكات. ولكن لحد هذه اللحظة لم يلاحق أحد، ولم يحاسب أحد!، والمفارقة، هنا، أن بعثة الأمم المتحدة في العراق نفسها تجاهلت الموضوع، ولم تتابعه في تقاريرها اللاحقة، ممــا يؤكد حقيقة أنهــا كانت دائما شــاهد زور في العراق!

وبالرغم من وجود وقائع وشهادات لشهود عيان، ووثائق مصــورة تظهر مجموعات تم اعتقالها على يد قوات رســمية، ولــم يعثر عليهم بعد ذلــك، هناك إنــكار منهجي ولا أخلاقي لوقائع الاختفــاء القســري الثابتة ووصل الأمــر إلى نائب رئيــس مجلس النواب، المؤسســة التي يفتــرض انها تحقق مصالح الشــعب، فقد أصدر بيانا يوم 12 نيسان/ أبريل 2021 انكر فيه وجود أي حالة اختفاء قســري في العراق، وقد أشار البيان إلى أن المفوضية العليا لحقوق الإنســان في العراق قد اكدت في كتاب رســمي أنه «لا توجد ولا حالة إختفاء قسري ثابتــة في العراق » وأضاف بأن «المفوضيــة العليا قد تعاملت مع الكثير من الادعاءات الســابقة وقد تبين بطلانها ولم يثبت شــيء، بل على العكس قــد تبين أن جزء ممــن ادعى ذووهم أنهم مختطفــن هم هاربون خارج العــراق ومدانون بأحكام قضائية، او ممن يمارس الإرهاب لحد الآن ». ولكن عند العودة إلى كتاب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق الصادر في 6 تشــرين الأول/ أكتوبــر 2020، الذي يشــير اليه نائب رئيس مجلس النواب ســنجد أنه ينص على ما يأتي: «إن ما ورد للمفوضية بخصوص شــكاوى الاختفاء القســري هي لا زالت ادعاءات وفقا للمنظور القانوني، وإن مسألة إثباتها من عدمه يحتاج إلى تحقيق من الجهــات المختصة». وبالتالي لا صحة لما أورده نائب رئيس مجلس النواب من «استنتاجات» و «تأويلات» و «أحكام قاطعة » تفضح «موقفا مسبقا »! فلم يقل الكتاب مطلقا أنه «لا توجد ولا حالة اختفاء قســري ثابتة في العراق»! ولم يقل مطلقا «إن المفوضيــة قد تعاملت مع الكثير من الادعاءات الســابقة وقد تبين بطلانها ولم يثبت شــيء !» ولم يرد فيه مطلقا شــيء عن «خرافة» الهاربين خارج العراق والمدانين بأحكام قضائية !»

ولا يمكــن فهــم ما قالــه نائب رئيس مجلس النواب إلا في سياق إنكار الفاعل السياســي الشيعي المنهجي لجرائم الاختفاء القسري في العراق، والتــي تنطلق من دوافع طائفيــة، بدليل أنه لم يقف على فضيحــة أن «الجهات المختصة» التــي يفترض بها إثبات وقائع الاختفاء القســري من عدمها قد «تواطأت» ولم تقم بواجبها، كمــا أن المدونة القانونية العراقية ليس فيها أي مادة تتعلق بالاختفاء القسري، وبالتالي ليس ثمة جهة يمكن اللجوء اليها لإثبــات وقوع هذه الجرائم أصــا! وأقصى ما يمكن للقضــاء العراقي فعله هو التعامل مع هذه القضية على انها قضية أحوال شخصية، او قضية اختطاف جنائية، وليس بوصفها جريمة ضد الإنسانية ترقى لأن تكون جريمة حرب!

في النهاية لا إمكانية حقيقة لحسم قضية الاختفاء القسري في العراق، في ظل عجز الطبقة السياسية السنية عن متابعة هذه القضة بشــكل جــدي خارج إطار الابتزاز السياســي أو الاســتثما­ر الانتخابي، وفي ظــل إصرار الفاعل السياســي الشــيعي على الإنكار المنهجي لهذه الجرائــم للتغطية على مرتكبيهــا، إلا عبر مــا تتيحــه «الاتفاقية الدوليــة لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري» والتي صادق عليها العراق، تحديدا تلك المتعلقة باللجنة المشــكلة بموجب المادة )30/ )1 وهي اتفاقية تتيح لهذه اللجنة، فــي حال إبلاغها بمعلومات ذات مصداقية ان دولة عضو «ترتكب انتهاكا جســيما لأحكام هذه الاتفاقية» كما هو حاصل في العراق في هذا الشــأن، أن تطلــب من واحد أو أكثــر من أعضائها القيــام بزيارة للدولة المعنية للتحقق )المادة 34(! كما أتاحت الاتفاقية لهذه اللجنة، في حال تلقيها معلومات «تتضمن دلائل تقوم على أسس قوية وتفيد بان الاختفاء القسري يطبق بشكل عام او منهجي» في دولة عضو، وبعد أن تلتمــس من الدولة المعنية كل المعلومات المتعلقة بذلك «أن تعرض المسألة، بصفة عاجلة، على الجمعية العامة للأمم المتحدة عن طريق الأمين العام للأمم المتحدة» ولا سبيل، غير هذا، لإنصاف الضحايا وتصويب الأمر.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom