Al-Quds Al-Arabi

في الحرب ووحوشها والنجاة منها

رواية «شقيق الروح» الفائزة بجائزة «مان بوكر» لهذا العام

-

■ منتصف القرن التاســع عشــر، أنشأت فرنسا الاستعماري­ة ما سوف يُطلــق عليــه «الكتائــب الســنغالي­ة» وهي وحدات مشــاة حربية، التحقت بالجيش الفرنســي، على الرغم من أن أفرادها من دول غرب افريقيا )مالي، غينيا وســاحل العاجــل( فقد اقتصر اســمهم على «الســنغالي­ين» بحكم أن التأسيس تم في ذلك البلد.

هــذه الكتائــب التــي ظلــت تتجدد وتتطــور وتتعدد، إلــى غاية منتصف القــرن العشــرين، ولــم تُحــلّ إلا بعد تحــرر افريقيا )بــدءاً من عــام 1960) ســوف تشــارك في حمــات احتلال دول افريقيــة أخرى باســم فرنســا، لكن انطلاقــاً من 1914 ســوف ينتقل الآلاف منهم إلى الضفة الأوروبية، يشــاركون مرغمــن أو تطوعــاً فــي حرب عالمية أولى، لم تكن تعنيهم، لكن وجدوا أنفسهم في خطــوط المواجهة الأولى دفاعاً عن فرنســا، سيموت الآلاف منهــم أيضــاً في تلك الحرب، ومن نجا منهم يعود إلى وطنه مصاباً، أو قد بتر عضو مــن أعضاء جســمه، في خضم الــدم والموت الذي شهدته الحرب العالمية الأولى، ومشاركة الافارقة فيها.

تأتــي روايــة «شــقيق الــروح» لدافيــد ديــوب، التــي صــدرت لأول مرة بالفرنســي­ة )2018) قبــل أن تترجــم إلــى الإنكليزية، وتنال قبــل أيــام جائزة

مــان بوكــر البريطانية، هــذه الرواية التــي ترجمتهــا إلــى الإنكليزيـ­ـة آنــا ماســكوفيت­س بعنــوان مُخالف: «في الليــل كل دم أســود» تحكــي بلغــة صادمــة ومباشــرة وقوية عــن حياة واحد من مقاتلي الكتائب السنغالية، فــي الخــط الأول مــن المواجهــة ضد الألمــان، تعيد قارئها إلــى محنة أولئك الافارقــة، الذين خرجوا مــن بلدانهم وانضموا إلى حرب لم تكن تعنيهم.

شقيقي الذي لم أقتله

من البداية تصادفنا شخصية «ألفا نديــاي» هــذا المقاتــل الســنغالي، الــذي ســوف يســتفرد بالحكــي، حكــي ممــزوج بكثيــر مــن المــرارة والفظاعــة، يســرد فــي الصفحات الأولى ماذا وقع لصديقه، أو شــقيقه، شــقيق روحــه «مديمبــا ديــوب» الــذي بعــج بطنــه واحد من «الأعــداء» ـ كما يســميهم ـ فيرى ألفا أحشاء صديقه الشــقيق وقد تدفقت إلى الخــارج، ويطلب منه هــذا الأخير أن يقتلــه لأنه لم يعد يحتمل الألم، لكن ألفا يمتنــع، ويظل على طــول الرواية نادماً على أنه لم يقطع أنفاس صديقه الشــقيق ويرحه من الألم، مستحضراً فــي الوقت ذاته ما يظنها مآثر حربية، حين كان كلما أســقط جنديــاً ألمانيا، بتر أصبعا مــن أصابعــه واحتفظ به للذكــرى. ما يمكن أن نقــف عليه، منذ الصفحــات الأولــى مــن الروايــة، أن دافيــد ديوب نجح ـ فعــاً ـ في توريط القارئ في جــو الحرب، اســتطاع أن يقبض على أحاســيس بطلــه، ويبثها بــن حواراته الذاتيــة المطولة، منذ البــدء ندخل فــي أجــواء الموت

والقتــل،

والمطــارد­ات والخــوف والاختبــا­ء، قــد لا نتعاطف مع )ألفــا( ولا صديقه الشــقيق )مديمبــا( لكننــا لا يمكن ألا نستشعر محنتهما، وهما اللذان غادرا قريتهمــا فــي الســنغال، ولا يعلمــان أين ســتكون الوجهة وهل ســيعودان إليها، ســاهما في الدفاع عن فرنســا، التــي كانا يظنــان أنها وطنهمــا الأم، وهمــا لا يتقنان الــكلام بالفرنســي­ة، ولا يفرقان بين الأوروبيين، بالنســبة لهمــا كل الأوروبيين لا بــد أن يكونوا ببشــرة بيضاء وعينين زرقاوين، كما قال الراوي. تســير الرواية على وقــع مونولوغ )ألفا نديــاي( الذي يحمــل ما حصل لصديقــه الشــقيق مثــل جــرح فــي قلبــه، بعــد أن رآه بأحشــاء تطل إلى الخارج، ببطن بقــره واحد من الأعداء وســيتحول إلــى وحش آدمــي، يقتل ويقطــع أصابــع الخصــوم، كل مرة، انتقامــاً لمــا حــل بـ)مديبــا( ويــروي كل مرة مــاذا كان يقع فــي المتاريس، إعجــاب رفاقــه الفرنســيي­ن بــه، ثــم خوفهــم منــه وقــد بــات يقتــل دون هــوادة، وهو غيــر مبال مســتمراً فــي حكايتــه بلغة يمكن أن نطلق عليها «فرنســية افريقيــة» لا فرنسية أدبية، فهو ليس شخصاً متعلماً، ولا يتقن لغة البلد الذي وصل إليه، يســتعين كل مــرة بلهجته المحليــة في الســنغال، ولا يضيــره التكــرار، ومقارنة حياتــه في القارة الســمراء الهادئة بما وجد عليه نفسه في أوروبا.

بحث شاق عن الحرية

عكــس )مديمبــا( الــذي التحــق بالحــرب العالميــة الثانية، دفاعاً عن فرنســا، من بــاب اختياري، متطوعــاً، فقد شارك فيها )ألفا( منصاعاً إلى رغبة صديقه الشــقيق، دون أن

يعلــم ماذا ينتظــره هنــاك، وقد وعده )مديمبــا( في حال عادا منها ســالمين أنهما ســوف ينالان مالاً وفيراً، هكذا كان المــال والغنائم محركاً في ســفره إلى ضفة لــم يكن يعرف عنها شــيئاً، وخاض حرباً لا يعرف ســببها ولا من يقاتل فيها، لكنــه مع تواصل المعارك، وفــي كل مــرة يقطع فيهــا أصبعا، أو يصيــب واحداً مــن «الأعــداء» بطلقة أو ضربة ســكين، يعتقــد أنه خطا إلى الأمام، إلى الحرية، إلى نهاية الحرب، إلــى عودته إلى الســنغال، كان )ألفا( يقتل بمرارة، كي تنتهي الحرب، لكنها طالــت، تضاعف عدد ضحايــاه، ولم يشف من حسرته أنه لم يستجب إلى رغبة صديقه الشقيق، ألم يقتله بعدما شــاهده بأحشــاء تطل إلــى الخارج، وهو يتألم ويرجوه أن يقتله ويريحه؟

الأصــل في الحــرب أن يفقــد الفرد إنســانيته، أن ينــزع إلــى الوحشــية، أن يفقــد كل مــا بنــاه، كل مــا حافظ عليه ســلفاً من مشــاعر ومــن أخلاق، لكــن )ألفا( في رواية «شــقيق الروح» يفعــل العكس، في عــز الحرب يحفظ إنســانيته، لم يتخل عن صدقه وحبه لصديقــه الشــقيق، لــم ينقطــع عــن التفكيــر فيه، ولا فــي التفكير في أهله وبلدتــه، الذيــن تركهــم خلفــه، كلما زادت الحــرب ضــراوة اســتعاد بطل الرواية روحه الإنســاني­ة، يســتجلب حكايــات مــن طفولتــه، كــي يفــر من الموت المحدق به، ففي «شــقيق الروح» تستحيل الحرب تجربة في الدفاع عن الــذات، وعن القيــم التي تربــى عليها الفرد، في صون الماضي كي لا يختلط بالــدم والموت اللذين يطــان كل يوم، يجعل دافيد ديوب من الحرب العالمية الأولى ومشاركة سنغاليين فيها علة، كي يذكرنــا بأن الإنســان مهما بلغت حماقاتــه فإنه لــن يتخلــى عن الحب والصداقة.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom