Al-Quds Al-Arabi

هل بدأت رحلة الهبوط للرواية؟

- إبراهيم عبد المجيد ٭ ٭

■ لم أكن وحدي، فبعد خمسين سنة كلما عادت الذاكرة إلى بداياتي في الكتابة، أجد جميع من كانوا معي أو حولي، كانوا قد بدأوا حياتهم بكتابــة القصة القصيــرة.. بعضهم اســتمر فيها باعتبارهــ­ا ندَّاهته الأولى، مثل سعيد الكفراوي ومحمد المخزنجي، وكثيرون مثلي دخلوا حقل الرواية مبكرا أيضا، وربما في الوقت نفســه الذي كانوا ينشرون فيه القصص القصيرة. الأســماء كثيرة جدا منهم عبده جبير ومحمود الورداني ومحمد المنسي قنديل وجار النبي الحلو، الذي نشر رواياته متأخرا.

من سموهم بالستينيين كان إســهامهم الذي دشنوا أنفسهم به هو القصة القصيرة، ولم يختلف عنهم في البداية غير صنع الله إبراهيم. محمد البساطي وجمال الغيطاني وإبراهيم أصلان وبهاء طاهر ومجيد طوبيا وجميل عطية إبراهيم ومحمد إبراهيم مبروك وغيرهم، دشنوا أنفســهم باعتبارهم كتّاب قصة قصيرة، ثم في السبعينيات وما بعدها بدأت روايات أكثرهم. طبعا لن أســتطيع أن أكتب كل الأســماء، فهناك غيرهم من الفنانين مثل عز الدين نجيب وصلاح هاشــم ناقد السينما، بدأوا بالقصة القصيرة. لن أستطيع أن أكتب كل الأسماء فليعذرني من لم أكتب اسمه بسبب كثرة الأسماء التي يمكن أن تشغل المقال.

موضوعي هنا هو عن ســؤال الرواية.. ولو عدنا إلى زمن أسبق في الخمسينيات ســنجد الأمر نفسه حدث مع أســماء مهمة مثل يوسف إدريــس الذي كانت كتابتــه للرواية متأخرة عــن قصصه القصيرة. لم تكن الروايــة ندّاهة كبيرة، كانت شــاطئا لكتاب كبــار منذ بداية القرن العشــرين فى مصر، لكنهم في النهاية أعداد قليلة قياسا إلى ما يحدث الآن.. عشــرة أو عشرين أو حتى ثلاثين، كان منهم من انشغلوا بالدراســا­ت الأخرى أيضــا، تاريخية وسياســية وغيرهــا، فكانت رواياتهــم أحادا، رواية أو اثنتين لبعضهم، بينمــا لاذ آخرون بها مثل نجيب محفوظ ويوسف الســباعي وإحسان عبد القدوس أكثر من أي شيء آخر.

كان ما يحدث هو ابن التطــور الطبيعي للحياة، والتطور الطبيعي للموهبة التي تأخذ صاحبها إلى ما تريد. مع بداية ســبعينيات القرن الماضي اتســع الزمن للرواية أكثر. التطورات والأحداث التي جرت في مصر بعد حرب أكتوبر/تشــرين الأول، والتغيــر الذي تم فرضه على المجتمع المصري، فاهتز كثيرا، مثل سياســة الانفتاح الاقتصادي التي قلبت الحياة الاجتماعية، وتسببت في هجرات كبيرة إلى الخليح، بعد أن تخلت الدولة عن دورها الاقتصــاد­ي، وبدأت في بيع مصانعها، أو مصانع الشــعب في الحقيقة، وبدأ الغزو الوهابي على الثقافة، كما بدأ يُغيِّر في شكل ومظهر الناس وســلوكهم وقناعاتهم، والحديث طويل. بدأت كتابة الرواية فى الاتســاع، ودخلها كتاب الســتينيا­ت الذين لم يكتبوهــا من قبل، وأذكر ضاحكا، حين قلــت وقتها في حوار أو مقال لا أذكر، أن الرواية ســبعينية بفعل تطور الأحــداث، بينما كانت القصة القصيرة ســتينية، أنهم غضبوا وتصوروا أنني أنسب الرواية لجيل آخر باعتبارهــ­م يملكون مفاتيــح الدنيا والآخرة، بينمــا كنت أحلل الأوضاع التي أدت لاتساع الرواية لا أكثر ولا أقل.

اتسعت الرواية بفعل التغيرات التي كانت تدعو إلى التأمل الأوسع، وشــيئا فشــيئا بحكم زيادة الســكان، ازداد عدد الكتَّاب، اتســعت مســاحتها في العالم العربي أيضا حتى أني كتبت في الثمانينيا­ت في مجلــة «الهلال» أن الرواية صارت الآن ديــوان العرب، قبل أن تنطلق مقولــة زمن الرواية. لن أدخل في كيف اتســعت الحيــاة للرواية في العالم كله، فهذا موضوع كبير لعل النقاد والمفكرين ينشغلون به، وإن كنت رأيت ملامحه في بلاد مثل أمريكا اللاتينية، حيث صارت الرواية ملاذا للحرية المفتقدة في نظــم ديكتاتورية، فوجدت الحرية الضائعة مكانها في الرواية العجائبية العائدة إلى الأساطير، روح الإنسان التي سيتســع العالم لها، كما ساعد تفكك الاتحاد السوفييتي على الانطلاق في الرواية أكثر، بعد أن تهاوت أســطورة المدينة الفاضلة، التي يجب فيها عدم الكلام أو الاعتراض، ولم يعــد الكتاب يحتاجون للهجرة أو النشــر في الخارج. الأمر نفسه مع كتاب أوروبا الشرقية، الذين لجأوا إلى أوروبا الغربية. تغيرات كبرى في العالم كله يمكن للمفكرين، فهم أدق مني، الكتابة فيها وهذا عملهم.

كان ظهور رواية لكاتب بيننا مبعث اهتمام منا جميعا، نقادا وكتابا لا نرى معنى لأي تقليل من قيمة أحد. ربما في جلسات النميمة الضيقة يتســع الأمر. وكان هناك نقاد كرسوا أنفسهم للســتينيي­ن فقط، بينما نقاد آخرون كرســوا أنفســهم للجميع مثل علي الراعي وشكري عياد وصلاح فضل وأحمد عباس صالح، ومن أجيال أخرى يســتمر النقاد مثل مراد مبروك ويسري عبد الله، وشباب يظهر دائما في عالم النقد، وبالمناســ­بة هم كثيرون، لا كما يتصور البعض أنه لا يوجد نقد. انتهت القسمة الضيزي بين الأجيال كل عشر ســنوات، وانتهت الأسوار بين الأجيال، شــاء بعض الكتَّاب أم أبوا. اتســعت الرواية في مصر وفي العالم العربي حولنا، والأســماء من العالم العربــي لن يكفيها المقال. كانت التحــولات طبيعية جدا لجنس أدبي هو جنــس الرواية، حتى انقلبت الموازيــن بالجوائز والمؤتمرات، التي صــارت أكبر من جوائز الشــعر والقصة القصيرة ومؤتمراتها، وطبعا النقد والفكر، حتى الآن لا أستطيع أن أجد إجابة عن سؤال، كيف تحولت هذه الفتنة بالرواية إلى عشــوائية كبيرة، فصارت الروايات تخرج مــن المطابع كل يوم. البعض يرى أن الجوائز ســاعدت على ذلــك، لكن هل يعرف من يكتب لأول مرة أنه ســيكتب شــيئا يســتحق جائزة؟ حدثت هجرة لبعض الشــعراء، بل النقاد إلى الرواية، ورغم أن البعض يراه بســبب فتنة الرواية، إلا أني اضعه فــي مكانه في التاريخ الأدبي، فهناك شــعراء كتبوا روايات من زمان ونقاد أيضا. هل أذكركم بعلي أحمد باكثير مثلا وغيره، حتى لويس عوض كتب روايــة وإن كانت الوحيدة، وصلاح عبد الصبور كتب للمسرح، وأنا أحب للكاتب أن يتنقل بين الفنون، لكن إغراء الرواية طال كل المهن الآن، وليســت القريبة فقط مثل الصحافة التي جاء منها كتاب كبار من قبل، مثل فتحي غانم وطبعا إحســان عبد القدوس. الإجابة القديمة أن النقد سيقوم بغربلة ما يُنشر بالدراسات لم تعد موجــودة، فأين هو النقد الذي ســيتابع هذا الكــم الهائل من الإنتاج الروائي. ربما ألف رواية في العام. من المجنون الذي ســيضيع عمره في الدراســة لكل هذا الكم؟ أصبحت أسئلة من نوع أريد أن أكتب رواية، لكن لا أعرف هل أقرأ شــيئا مثلا يساعدني على ذلك؟ أم أكتبها وخلاص؟ أصبحــت تأتي إليّ في الرســائل الخاصة على فيســبوك وتويتر كل حــن، ومن أقول له عليك أن تقرأ في تاريخ وفن الرواية، لا يراسلني مرة أخرى. سمعنا وهو حقيقي، عمن يدفعون لكتّاب ليكتبوا لهم روايات، لكن الحديث عن أي منهم معناه اتهام بلا دليل وقضية فى المحاكم، فالذي أخذ ثمن الكتابة لا يتكلم، لكن السؤال هو لماذا يفعل غير الموهوب ذلك. من أين جاءت هذه الغواية؟ كيف صارت الرواية ندَّاهة دون إدراك أن من سيمشــي وراءها سيغرق، ما دام يعجبه صوتها ولا يدرك مصاعب الكتابة نفســها كلغة وتكوين. وهل صارت الرواية أكثر متعة لبعض الأغنياء أو الموســرين من الســفر في العالم مثلا، ليدفع بعضهم لكاتب مجهول ليكتب له رواية؟ مــا هو المجد العائد عليه غير احتفال مــن المنتفعين به وهو يدرك ذلك، ولن يحضــر أي ندوة، وإذا حضر ســيتحدث في شــيء آخر، مثل أنه «بيحب الفــن دا من صغره وربنا هداه ليه ولو متاخــر» . أعتقد أن الرواية كفن وصلت إلى قمتها وستنخفض والمهم أن لا تنزل إلى القاع.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom