Al-Quds Al-Arabi

افتضاح المواقف وسقوط الأقنعة

-

■ كم كانت جريمة نكراء؛ صبغت ثرى الوطن الجزائري بالدمــاء، مثلما ترســخت في الوعي الجمعــي والفردي بالأحمر القانــي، بل توارثتها الأجيال التالية بالدعاء للشهداء.

فبترخيص من الإدارة الاستعماري­ة الفرنسية في الجزائر، خرجت مظاهرات سلمية يوم 8 مايو/ أيار 1945 للمشاركة في احتفالات النصر على دول المحور، ولتذكير فرنســا بوعودها قبيل الحرب، بتمكين الشــعب الجزائري من ممارســة حقه في الحرية والاستقلال، وطالب المتظاهرون بإطلاق سراح المجاهد مصالي الحاج.

وقــد رفعت شــعارات تنــادي بالاســتقل­ال، والتمســك بالهويــة العربية والإســام، وخرج ذيول الاستعمار، ومنتسبو الإدارة الاستعماري­ة، محرضين ضد المتظاهرين، حيث حدثت اشتباكات بين جانبين: الشعب المسالم الأعزل إلا من الإيمان بقضيته العادلة، ومناصري السلطة الاستعماري­ة والجيش الفرنسي المدجّج بكل أنواع الأسلحة، بل اشــترك فيها المعمرون بميليشيات خاصة كونت لهذا الغرض، وكأنها نية مســبقة. والغادرة هي تدخل الجيش الاستعماري بقواته الثلاث البرية والبحرية والجوية، التي نسفت العديد من القرى والمداشــر على ســاكنيها، ولننظــر كيف وصف الآخر الغربي في صحافتــه أبعاد المجزرة، فهذه مجلة أمريكية تصف الحدث: إن قاذفات القنابل الفرنســية، حطمت قرى آهلة بكاملها في منطقة الحادثــة، أثناء حملــة دامت تســعة أيام، وقد طار الطيارون الفرنسيون ثلاثمئة مرة في يوم واحد مســتعملين القاذفــات الأمريكية الثقيلة والمتوســط­ة، حتــى ســويت الأرض بعدد من القرى والدواوير، ثم طارت الطائرات المقاتلة الفرنسية البريطانية الصنع، خلف القاذفات الأمريكية لتسحق السكان الهاربين من المنازل التــي تحطمت، وترمي القنابــل على المخابئ العربية في الجبال، وقد استقدمت السلطات الاســتعما­رية لواءها الســابع من منطقتي الألزاس واللورين، الذي شارك في المذبحة، وتلك شهادة أحد الصحافيين الأجانب: أبدا، في الحقيقة، منذ عام 1842 منذ الماريشــا­ل ســانت أرنو، لم تعرف الجزائــر حتى في أيامها الســوداء فــي تاريخهــا قمعا أكثر ضراوة ضد شــعب لا يملــك وســائل الدفاع في الدروب، فــي الحقول في الشــعاب، في الأودية، ليس هناك إلا جثث مبقــورة أمعنت فيها الأفواه المدمــاة للــكلاب الجائعة تحــت التجمع المحزن للنســور التي كونــت دائرة، هنا وهنــاك، قرى بكاملها ســحقت، مبادئ الإنسانية انهارت تحت الرصاصــات القاتلة مــن طرف المتمدنــن، آكام وأكداس من الموتى.

وكانت حصيلة هذه المجازر بين ‪50000 45000،‬ شهيد، حسب المصادر الوطنية. إنها المذبحة التي وصفها الشــيخ البشــير الابراهيمي: يــا يوم 8 مايو 1945 لك في نفوسنا الســمة التي لا تمحى، والذكرى التي لا تنســى فكن من أي ســنة شئت، فأنت يــوم 8 مايو وكفى، وكل ما لك علينا من دين أن نحيي ذكراك، وكل ما علينا من واجب أن ندون تاريخك في الطروس، لئلا يمســحه النسيان من النفوس.

وقد كشــفت هذه المذبحة عن زيف شــعارات الاســتعما­ر الغربــي، وهو ما نرصــد في خطاب الإعــام الغربي عامة والفرنســي منــه خاصة،

وأيضــا فــي

مواقف اللوبي الفرنســي في المشــرق والمغرب؛ حيث اســتخدمت لفظــة «أحــداث الجزائر» في وصف المجزرة، بهدف التقليل من فظاعة الجرائم المرتكبــة، وتقديم صــورة زائفة عن المســتعمر الفرنســي، وهذا ما ذكره أحمد طالب الإبراهيمي في مذكراته، عندما التقى طه حسين، وحاوره مع زوجته ســوزان، فوجد الأخير يستخدم مصطلح أحــداث الجزائــر، وكان غيــر مصدق لمــا رواه الإبراهيمي عن مجــزرة 8 مايو، وأحداث الثورة، واستغرب أن تكون فرنســا التنوير والحضارة بهذه الوحشية، لكن تلك هي الحقيقة. توازى هذا، مع خطــاب تبريري معلن من قبل الحكومة الفرنســية، يرى أن القمع الذي مورس في 8 مايو هو طبيعي، لإنقاذ سمعة فرنسا، وحفظ هيبتها، وكانت مفردة «المجد الفرنســي» حاضرة في خطابات ديغول، وأيضا في طروحات اللوبي الاســتعما­ري المتمثل فــي المعمّريــن والمتطرفين الفرنسيين. وهو ما يؤكده فرانــز فانون في كتابه «معذبو الأرض» وهو بصدد شــرح البعد النفســي الذي يخص المســتعمر الفرنســي في الجزائر، ويفسر ســلوكه نحو الشعب الجزائري العنيف، بأن المســتعمر جاء إلــى الجزائر، وأخذ بيد شــعبها نحــو التقــدم، وإذا غادرها فإنها سترتد إلى عصور التخلف والقرون الوسطى وكان شعاره: «هذه الأرض نحن صنعناها، وإذا نحن ذهبنا، زال كل شيء» مع اســتخدام تعبيــر الســكان الأصليين المشابهين للهنود الحمر، وعليهم أن يكونوا محجوزين، والتزام أماكنهم، وإفساح المجال للمستعمر ليعمّر. وفــي المقابل فإن فرانز فانون يشــير إلى نقطــة غاية فــي الأهمية تتعلــق بتغير فهم الشعب نحو الوطن والثورة، فقد توحّد خلف الثوار، واختفت في المقابل جرائم الحق العام، والمشــاجر­ات الناتجة عن العصبية الفردية، وتخلّق الجميع بأخــاق الثورة، وترفّعوا عن صغائــر الأمور، ليتحد الشــعب كلــه من أجل الحرية، وضد المســتعمر، بل إن الميول العنيفة توجهت كلها نحو المحتــل، وإن كانت قد عادت بعد التحرير. كما ينوه فانون إلى توحّد الشعب

بعد ذلك، ويمكن للأسرة أن تقدم كل مخزونها من الطعــام، إذا مرت بهم جماعة من المقاتلين، فذكرى المذبحة كانــت عالقة في نفــوس الجميع، عندما كانت عشرات الآلاف من الجثث موزعة على ثرى الوطن. ويذكر فانــون أن الثــورة التي اندلعت خلّصت الجزائري مــن فكرة بثها المســتعمر أنه مختلف، لا يفكــر إلا في مطعمه، ولا يعبأ بالوطن، فتحول المواطــن الجزائري إلى شــخص رافض للسيطرة الاستعماري­ة، بعدما شاهد أنه يمكن أن يكون جثة في لحظة.

فمن أبرز أصداء مجازر 8 مايو 1945، أن قناعة تامة تكونت لدى أتباع حزب الشــعب الجزئري، الذين كانوا أول من نادى بالاستقلال الوطني بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأن استرجاع الاســتقلا­ل الوطني لا يوهب وإنما يفتك من خلال اللغة التي يفهمها الاســتعما­ر، ومــن هذا المنطلق فــإن مجازر مايــو، عززت تصميــم مناضلي هذا الحزب للاســتعدا­د والتحضير، للتعجيل باندلاع ثورة مســلحة تعم كل أرجاء البلاد في أقرب وقت ممكن، وهــذا ما تجلى في المنظمة الخاصة المنبثقة عن مؤتمر حركة الانتصار للحريات الديمقراطي­ة، الواجهة العلنية لحزب الشــعب الجزائري، رغم الانشقاقات والصراعات التي عرفها هذا الحزب.

لقد كانت هذه المذبحة ســببا مباشرا في تغيير اســتراتيج­ية المقاومة، وتمهيدا للثورة الكبرى، بعدما أدرك المخلصون من أبناء الوطن عبث وعود المســتعمر، وأنه لا يضمر إلا شــرا، ولا سبيل معه إلا الكفاح المســلح، وقد اختزنت الذاكرة الجمعية هذه المذبحة لتكون شــرارة للثــورة. وها نحن نســتعيد ذكرى المذبحة، ونجد أن خطاب اليمين الفرنســي لا يــزال يتغنى بالمجد الفرنســي على جماجم الجزائريين، وبعض جماجم الشــهداء لا تزال تحتفظ به فرنســا، كلون من المفاخرة بنصر زائف تحقق على أشلاء الأبرياء.

 ??  ?? دافيد ديوب
دافيد ديوب
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom