Al-Quds Al-Arabi

لبنان الذي كان

- * كاتب مصري

ربما لم تعــد من قيمة لكلمات تضاف في دفتر عــزاء لبنان، فالبلــد الصغير الجميل «يغــرق» حرفيا بنص تقريــر كارثي للبنك الدولي، وأزمات الوقود والأدوية والأغذية تعدت حدود الخطر، والشــعب اللبناني نزل بأغلبيته تحت خط الفقر، والليرة اللبنانية لم تعد تساوي حبر طباعتها، وعليك دفع ما يزيد علــى 15 ألف ليرة مقابل الــدولار الواحد، ربما تزيد إلى 16 ألفــا وأنت تقرأ هذا المقال، وحليب الأطفــال أصبح نادرا كلبن العصفور، لا يكاد أحد يجده، وإن وجده ففي مخازن تجار الدمار اللبناني، على طريقة اكتشــاف 20 طن حليب فاســد في مخزن ســري، صار حديث المنهكين في بيروت، بعد أن كاد الجوع ينهش عظام الأطفال بعد الكبار.

ولا تســأل من فضلك عن أي حرب عصفت بلبنان، فقد صارت الحرب الأهلية اللبنانية تاريخا بعيدا نســبيا، وانتهت قبل أكثر من ثلاثين سنة، ولم تحطم لبنان، رغم ضحاياها البالغين أكثر من 120 ألفا، عبر 15 سنة من القتال بين عامي 1975 إلى مطالع 1990، قيل بعدها إن الوئــام حل محل الصــدام، وإن «اتفاق الطائف» 1989 أنهى ما كان، وأن الطبقة السياســية اللبنانية توافقت على اقتسام الحكم، وبصورة معدلة قليلا عن قواعد «الميثاق اللبناني» عقب خروج الانتداب الفرنسي عام 1943، إذ ظلت العلة الطائفية نفســها على حالها، وإن علا قليلا كعب رئيس الوزراء «السني» علــى صلاحيات رئيس الجمهورية «المارونــي» بينما ظل رئيس مجلس النواب «الشــيعي» هو نفســه منذ ما بعد «الطائف» فقد احتكر نبيه بري المنصب منذ عام 1992.

وتعاقب رؤســاء جمهورية مــن المارونيين، فــي حين برزت «الحريريــة السياســية» كبيت مرجعــي لأهل الســنة، ونجح الصيــداوي رفيق الحريري فــي عمليات إعادة إعمــار وتأهيل، إلى أن اغتيل فــي 2005، وخرجت القوات الســورية من لبنان، ودارت حرب 2006 بــن جيش الكيان الإســرائي­لي وحزب الله في 2006، ولم يتوقف الحديث عن الفســاد يومــا في لبنان، ولا عن الثراء المفزع لأمراء الطوائف وأسرهم والتابعين، لكن الأمور كانت تمضي في ما يشــبه السلاســة، رغم ملاســنات عنيفة لا تنتهي، وظل لبنان بلدا للنور وللحريات وللاغتيالا­ت ولعمليات المخابرات، وكانت المنطقة كلها ترى فــي لبنان مرآتها المحجوبة، وظل وجود الدولة اللبنانية هشــا وافتراضيا أغلب الوقت، لكن حياة الناس العاديين كانت تمشــي في يســر معقول، وظل سعر الليرة اللبنانيــ­ة ثابتا على نحو مدهش، من بداية تســعينيات القرن العشرين، ظل الدولار الواحد يساوي 1500 ليرة لبنانية، إلــى أن توالت زلازل الانهيارات في الســنوات الأخيرة، وانزاح الغطــاء عن الجحيم الذي يحرق أغلــب اللبنانيين اليوم، وصار رئيس الجمهورية نفســه يهتف بحياة جهنم، ولا يعد اللبنانيين ســوى بالمزيد من لظى نارها، ومن دون أن يفكر الرئيس ميشيل عون يوما بالاســتقا­لة، ولا حتى بترك الفرصة لغيره، ولا تسهيل مهمة ســعد الحريري في تشكيل حكومة، كلفه بها مجلس النواب قبل شــهور طويلة، وأعاد تأكيد التكليف قبل أسابيع، ومن دون أن يحدث أدنى تغير في عناد عون، الذي يصر على حجز أســماء ووزارات بعينها لفريقه الماروني، بينما يرد الحريري عليه عنادا بعنــاد، ويعلن أنه لن يشــكل الحكومة بالطريقــة التي يريدها عون وصهــره جبران باســيل، وأنه ماض في تشــكيل حكومة كفاءات فنية مســتقلة، مع حفظ التــوازن الطائفي، ورغم وقف الحــال «المايل» وتهاوي الوضــع اللبناني إلى قــاع الكارثة، فلا يفكر الحريري بدوره في الاعتذار عن المهمة شــبه المســتحيل­ة، ولا تنصحه بالاعتذار «دار الإفتاء الســنية» ولا مجمع رؤســاء الوزارات الســابقين، ورغم الدعوة لإضراب عام، فقد لا تتشــكل حكومة قريبــا، إلا إذا حدثت معجزة، أو تغيــر مزاج المتحاربين، على نفوذ زعماء الطوائف، فقد كانــت روما تحترق قديما، بينما حارقها نيرون يتسلى بعزف الموسيقى، وقادة لبنان الطائفيون مشــغولون اليوم بضمان امتيازاتهم الطائفية، بينما لبنان كله يحتــرق، في ما لا يزال نبيه بري منهمكا في لعبة «تدوير الزوايا » كمــا يقولون في لبنــان، فنبيه بري لا يكن شــعورا طيبا لعون، رغم أن الأخير لايزال رســميا حليفا لحليف بري الشيعي الأوثق الأقوى «حزب الله .»

نعم، نكبة لبنان أساســا في قادته الطائفيين، وهم لا يقبلون التغيير ولا التبديل، إلا أن يرثهم الأبناء أو الأصهار، وقد تواطأوا على خراب بلد كان متألقا زاهيا، و»شــفطوا» من موارده فوق ما اســتطاعوا، وتركوه يغرق عبر ســنين طويلة في بحر الديون، وكانوا يضيفون إلــى الديون ديونا للإيحاء بــدوران العجلة، إلــى أن بلغت الديون في حجمها ضعف الناتج القومي الإجمالي، وحين جاء وقت الانكشــاف، وجفت كثير مــن صنابير الإقراض والمعونة الخارجية، بدا لبنان كأنه تحول إلى هيكل من عظام، لم يتوقف الطائفيون عــن امتصاص ما تبقى فيها من رمق و»مرقة» ثم جاءت كــوارث مضافة مــن صنعهم، كانفجــار مرفأ بيروت، لتنهي حياة المئــات، وتهدم ثلث مبانــي العاصمة، وتضيف إلى النزيف صديدا طافحا، وتجلب خســائر جديــدة بنحو 15 مليار دولار، فــي بلد كان كل ناتجه القومي الإجمالــى 55 مليار دولار، ثم انكمش إلى 33 مليار دولار في عام 2020 وحده، ويتوقع البنك الدولي انكماشه مع نهاية 2021 بنحو عشرة في المئة إضافية، في واحد من أسوأ ثلاثة انهيارات اقتصادية في الدنيا كلها طوال المئة والخمسين سنة الأخيرة، بينما تتطاير اتهامات متبادلة بالفساد والنهــب، وصلت في تقديــرات دولية إلى نزح نحــو 300 مليار دولار في الثلاثين ســنة الأخيرة، ناهيك من التدمير شــبه الكلي لمرافق المياه والكهرباء وغيرها، وشــح إمدادات الوقود والدواء والغذاء، وتهريب كل شيء مع المخدرات عبر الحدود السائبة برا وبحر وجوا، وتوالي موجات الغضب والاقتتال في الصيدليات، ومنافذ البيع على عبوة حليب، ومن دون أن ينفتح طريق سالك، لا لإعادة ترميم النظام الطائفي المهترئ، ولا إلى تغيير، طالبت به انتفاضات اللبنانيين منذ ثورة 17 أكتوبر 2019، التي حلمت ببناء نظام وطني جامع بديل عن محاصصات الطوائف، لكن الحلم ظل عصيا على التحقق، وواجهته الطغمة الطائفية بنشر الاحتقانات الدينيــة والمذهبية، وبتكديــس الثروات المســروقة في جيوب الزعماء والأتبــاع، وإلهاء الناس بمشــادات رئيس الجمهورية «المعلــق» مع رئيس الــوزراء «المكلف» أو الخــروج بالمطلق عن أبســط مقتضيات وجود الدولة الافتراضي، وعلى نحو ما عرض حســن نصر الله زعيم حــزب الله من حلول، باســتيراد الدواء والوقود من إيــران، وبالليرة اللبنانية لا بالدولار، وتهديده بأن يســتورد بنفســه من غير حاجة إلى موافقة حكومة، وأن يحمي ســفن الوقود الإيرانية في الموانئ اللبنانية، وأن يشرف بحزبه على عمليات بيع وتوزيع البنزين والمازوت.

ومع التسليم طبعا بمسؤولية القادة الطائفيين أولا عن محنة لبنان، فلا يخفى أن مســؤولية العرب تبدو ظاهرة أيضا، فلبنان بلد عربي في البدء والمنتهى، ورغم صغر عدد سكانه ومساحته، فإنه عظيم الأهمية في عالم عربي تتداعى قوائمه، وهو «ســرة» الأمن القومي العربي لو صح التعبير، وقد حمل عن العرب جميعا عبء مقاومة الكيان الإســرائي­لي لعقود، ومن دون أن تمتد له يد عون عربي مؤثــرة ومخلصة، لا وهو يحــارب، ولا وهو يعاني اليوم أســوأ الظروف الاقتصادية والاجتماعي­ــة، ولا وهو يدفع عن نفســه غوائل إرهاب همجي اجتاحت المشــرق العربي كله، بل ترك لبنان كســاحة خالية وملاعب مفتوحة، لتوحش النفوذ الإيراني في أغلب الأوقات، ولسلاســل المبادرات الفرنســية مع توالي مضاعفات الأزمة الراهنة، وصولا لعقد مؤتمردولي خاص بتمويــل وتغذية أفراد الجيــش اللبناني، ومن دون أن نســمع عــن مبادرة عربية جامعة لإنقاذ لبنان، تتخطى دور مســاعدات موقوتة من بعض الدول العربية، في حين فضّل القادرون العرب المكتنزون ماليا متعــة «الفرجة» على عذاب لبنــان، وربما تلذذ بعضهم بإشباع شــهوة انتقام ملتاثة، تريد تحطيم لبنان نكاية في إيــران وخدمة لإســرائيل، وكأنهم يســلمون عقلا ووجدانا بإخلاء أقطار العرب للآخرين، وينســون ويتناســون أنهم بما يفعلــون، لا يجدعون ســوى أنوفهم وأنف الأمــة التي يدعون الانتساب إليها، فالقاعدة السارية في كل زمان ومكان، أن الدنيا وتصاريف السياســة لا تحتمل الفراغ، وأن كل فراغ تتركه خلفك يحتله غيرك، وهو عين ما جرى ويجري في أقطار العرب المحطمة، من العراق إلى سوريا إلى اليمن وليبيا وغيرها، وإلى لبنان الذي يمضي إلى خبر كان، لو لم يستيقظ إليه العرب قبل فوات الأوان.

كانت روما تحترق وحارقها نيرون يتسلى بعزف الموسيقى، وقادة لبنان مشغولون اليوم بضمان امتيازاتهم، بينما لبنان يحترق

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom