Al-Quds Al-Arabi

«فورين بوليسي»: كيف نسيت أمريكا أن تاريخها في الشرق الأوسط بدأ من دمشق

قصة أرتشي وكيم روزفلت... وخط «تابلاين»

- لندن «القدسالعرب­ي» من إبراهيم درويش:

«كان يا مــكان، أمريــكا احتاجت ســوريا» مقال أعده الباحث جيمس بــار مؤلف كتاب «أمراء الصحراء: المعركة بين الولايات المتحــدة وبريطانيا العظمــى للهيمنة على الشرق الأوسط» في مجلة «فورين بوليسي» وبدأه قائلاً: «في الوقت الذي أعلن فيه عن ولادة وكالة الإســتخبا­رات الأمريكية )ســي آي إيه( في أيلول )ســبتمبر( 1947 قاد اثنان من عملائها ســيارتهما من بيروت الشــرقية وعبرا الجبــال لمقابلة زميل لهمــا وصل للتو إلى دمشــق. وكان أرتشــي وكيم روزفلت ابنــي عمومة وحفيــدي الرئيس السادس والعشرين المغامر مثلهما. ورغم صغر عمرهما 29 و 31 عاماً على التوالــي إلا أنهما كانا محارببين مخضرمين في عالم الجاسوســي­ة. فقد كان أرتشــي الذي أنهى عمله في الملحقية العســكرية الأمريكية بإيران هو المدير الجديد لمحطة «ســي آي إيه» في بيــروت. أما كيم الــذي عمل في مكتب الخدمات الإســترات­يجية أثناء الحرب فقد كان يعمل تحت غطاء صحافــي لصالح مجلة «هاربرز». وكان الرجل الذي يريدان مقابلته هو مايلز كوبلاند الذي سيلمع اسمه ويشــتهر )مؤلف كتاب لعبة الأمم(. وعندما التقى أرتشي وكيم مع كوبلاند بدأ ثلاثتهما برحلة في سوريا. وكان الغطــاء للجولــة هو زيــارة القــاع الصليبية المنتشرة في ربوع البلاد لكن الغرض الرئيسي منها كان هو البحث عن المواهب. وبالتحديد كانوا يبحثون عن سوريين في مواقــع التأثير ممن اســتفادوا من التعليــم الأمريكي ولديهم اســتعداد لمســاعدته­م في أمر اســتراتيج­ي مهم. ونجح الغطاء بشــكل كبير حيث أصبحت ســوريا بنهاية عام 1947 مهمة للأمريكيين كما كانت أهميتها للصليبيين في القرون الوســطى. وكان سبب انجذاب الأمريكيين لسوريا هو موقعها الإستراتيج­ي لا مصادرها وثرواتها. فقد نبعت اهميتها للصليبيين في القرنين الثاني عشــر والثالث عشر لكونهــا الطريــق الرابط بــن القدس وأوروبــا. ونبعت أهميتهــا للأمريكيين الثلاثة في نهاية عــام 1947 لوقوعها فــي طريق أنابيــب النفــط الضخمة التي ســتضخه من حقوق النفط السعودية إلى اوروبا من على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وكانت أهمية هذا المشروع هي ما دفعت رجال «ســي آي إيه» للقيام بتحركين غير عاديين من أجل تأمينه. فلم يقوموا بتخريب الخطة البريطانية التي كانت تهدده على ما يبدو بل تدخلوا في السياسة المحلية بطريقة غير مســبوقة في المنطقة. وكانت الحادثــة بداية للتدخل الأمريكي في الشرق الأوسط لكنها نسيت بمن فيهم صناع السياسة الأمريكية.

وتظــل ســوريا مهمــة لبعض الــدول لكــن الولايات المتحدة ليســت واحدة منها. فلم تكن فكرة تحول ســوريا لســاحة نزاع على المصادر الطبيعية السعودية بين أمريكا وبريطانيــ­ا مطروحــة قبل وصــول أبناء العــم روزفلت عــام 1947. ففي فترة ما بين الحربين وقعت ســوريا تحت الإنتداب الفرنســي ولــم يكن للأمريكيــ­ن وجود واضح فيها باستثناء بعض البعثات التبشيرية الأمريكية. ولكن شــركة أرامكو المملوكة أمريكياً توصلت في عام 1938 إلى عملية مشتركة مع السعودية.

ورغم أن النــاتج النفطي كان مقيداً بســبب الحرب إلا أن عالم الجيولوجيا الشــهير أيفريت لي دوغولير توصل لنتيجة مدهشــة بعد زيارة للسعودية حيث قال إن رمالها تحتوي كميات من النفط تصل إلى 100 مليار برميل وقرر أن مركز تجارة النفط يجب أن يتحول من خليج المكسيك شرقاً إلى منطقة الخليج التي تبعد 8.000 ميل. وكان للكشف هذا تداعياته الكبيرة على شــركة ارامكو التي لم تكن علاقاتها مع الملــك عبدالعزيز الذي منحها حــق التنقيب عن النفط جيدة. فقد قطعت الحرب أرامكو عن ســوقها الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط، كما أن نقص الحاويات الفولاذية للتخزين قيد من خططها للتوسع.

وكانت النتيجة عدم ارتيــاح الملك الذي كان يعول على توسع الإنتاج النفطي ويواجه نقصاً في المال بشكل جعله يهدد من فترة إلى أخرى إلغــاء الإمتياز الذي منحه إياها ونقله إلى بريطانيا.

خط «تابلاين»

وفي محاولة لإصلاح العلاقات مع إبن سعود ومساعدة الشركة التنافس على الســوق الأوروبي المتعطش للنفط وتوسيع تأثيرها في الأردن وسوريا ولبنان والتي حصلت على اســتقلاله­ا مباشــرة بعد الحرب اقترحــت الولايات المتحدة بناء خط أنابيب عابر من حقول النفط السعودية إلى شواطئ البحر المتوسط.

ومع أن خــط الأنابيب الــذي عرف باســم «تابلاين» ستموله شــركة أرامكو نفسها إلا أن المشــروع كان جذاباً لواشنطن. فمن خلال ضخ النفط السعودي الرخيص بدلا من النفط الأمريكي فإن واشــنطن ستســاعد على تعافي أوروبا من الحرب وبالتالي تخزين نفطها خوفاً من اندلاع حرب جديدة.

كما أن التجارة النفطية ســتؤدي لتوليد أرباح لشركة أرامكــو ولملاكهــا بحيــث تســتطيع وزارة الخزانة جمع الضريبة. وســيعمل خــط النفط على اســتعادة جزء من المليارات التي ســتخصصها الولايات المتحدة في مشروع مارشــال لإعادة إعمار أوروبا ما بعد الحرب والتي كشف عنها في جامعة هارفارد في حزيران )يونيو( 1947.

لكــن مشــكلة «التابلاين» هــي أنه ســيضع الولايات المتحدة في صدام مع بريطانيا وســيصطدم مع خط النفط الذي تديره شــركة النفــط العراقية التي تســيطر عليها بريطانيا ويبدأ من كركوك إلى ميناء حيفا، كما سيؤدي إلى توسيع التأثير الأمريكي في مناطق يعتبرها البريطانيو­ن والعراقيون الحديقة الخلفية لهم.

وبعد أســبوع من حديث مارشــال في جامعة هارفارد علم أن ملك الأردن قام بزيــارة إلى بغداد وعلم أن الملك قد كــرر التأكيد على هدفه وهو ســوريا الموحدة بفدرالية مع العراق. وحدس مارشــال مصيب أن البريطانيي­ن يلعبون من وراء الستار.

وكان كيم روزفلت هو الذي كشف عن الخطة البريطانية فتحت غطاء عمله كصحافي في مجلة «هاربرز» وصل إلى المستشار السياسي أليكس كيركبرايد، واستطاع كيم أخذ معلومات منه عن دعم بريطاني لخطــة الملك عبدالله رغم استمرار البريطانيي­ن نفي علمهم بخطط الملك.

تسريب أمريكي

ولمعرفة أن الأخبــار عن دعم البريطانيـ­ـن لخطة الملك عبدالله وإنشــاء فدرالية عربية ســتغضب العراقيين فقد قام الامريكيون بتسريب المعلومات إلى بغداد. وفي الوقت الذي كان فيــه أبناء العم روزفلــت يتجولون مع كوبلاند في ســوريا شــجب الملك العراقي خطة الملك بشكل قضى عليها. ولم تتوقف الأمــور عند هذا الحد. ففي الوقت الذي منح فيه الرئيس الســوري شــكري القوتلي موافقته على خط تابلاين إلا أن البرلمان الســوري لم يصوت عليه بعد. ورغم كل الجهود التي قامت بها أرامكو وســي آي إيه لدعم مرشحين أصدقاء في انتخابات صيف عام 1947 إلا أنها لم تســهل العملية ولم يســاعدهم الذين تعرفوا عليهم أثناء جولتهم في أنحاء سوريا.

وظل المشــروع بدون مصادقة. وعندما وافقت الحكومة الامريكيــ­ة في 29 تشــرين الثانــي )نوفمبــر( 1947 على مشــروع الامم المتحدة لتقسيم فلســطين ثارت موجة في العالم العربي ولم يكن القوتلي مســتعداً لمواجهة الغضب خاصــة ان متظاهريــن هاجمــوا الســفارة الأمريكية في دمشق ولهذا قرر وضع ملف «تابلاين» على الرف لأجل غير مسمى.

وفي نهاية عام 1948 وجد أحد زملاء كوبلاند في دمشق ســتيفن ميد الشــخص الذي يعتقد انه هو الذي ســيمرر مشروع التابلاين. فقد كان حســني الزعيم، عقيداً طامحاً في الجيش السوري. وقال الزعيم لميد إن الطريقة الوحيدة لدفع السوريين نحو التقدم والديمقراط­ية «بالسوط».

النفوذ الروسي

وعندما وصل الزعيم إلى الســلطة بدعم من سي آي إيه أعلن بعد يوم من سيطرته على السلطة أنه سيقوم بتمرير مشروع التابلاين عبر مرسوم رئاسي. واستخدمت أمريكا أسطولاً من سيارات شيفروليه ودودج لعكس تأثيرها في ســوريا الخمســينا­ت من القرن الماضي إلا أن الأمر لم يدم فقد أطيح بحليفها أديب الشيشــكلي في عام 1954 ووقعت سوريا تحت التأثير السوفييتي الذي ساعد على تزويدها بالسلاح مقابل القمح والقطن السوري والقروض اللينة.

وبعد محاولة فاشلة لشن انقلاب مضاد، خاصة أن هدد الزعيم الشــيوعي نيكيتا خروشــوف باستخدام السلاح النــووي عــام 1957- اعتــرف أكبر دبلوماســي أمريكي بدمشــق أن لا طريقة هنــاك لمنع تحول ســوريا إلى الفلك السوفييتي.

وكتب قائلا: «لســوء الحــظ لا بديل حتــى الآن وترك المشكلة في يد الملك ســعود والدول العربية المعتدلة، وكل ما نأمله هو أن تظل ســوريا محايــدة». واختفت مخاطر المواجهة مع الإتحاد السوفييتي في الخمسينات من القرن الماضي مع وصول مصفحات جديدة إلى السوق التي قدمت بديلا إقتصاديا للســوق بدل تابلاين الذي عرقلت الحرب إكمالــه أو مطالب الــدول التي مر منها. ومــع وصوله إلى الجزء الشمالي من لبنان عبر سوريا تم وقف المشروع عام 1976 عندما أكملت السعودية تأميم أرامكو ولم يعد لأمريكا أي دور فيه.

لكــن الواقــع الجيوسياسـ­ـي لســوريا كســاحة في الأربعينات والخمســين­ات من القرن الماضي ظلت كما هي. فقد ظل البلد الممر الطبيعي بين الخليج واوروبا.

دور بشار

ولمعرفة بشار الأســد كيف أثرت مشاريع كتابلاين على استقرار ســوريا فإنه رفض عام 2009 خطة قطرية لإنشاء خط غاز عبر ســوريا وفضل خطاً لنقل النفط الإيراني عبر المتوسط بشكل ربطه بشكل قوي مع إيران.

ومع اندلاع الحرب الأهلية عام 2011 توقعت قطر وبقية الــدول الحليفة لأمريكا تدخل الأخيــرة في الحرب خاصة بعد استخدام الســاح الكيميائي لكنها لم تفعل، فتجربة العراق والمغامرة الأنغلو- فرنســية في ليبيا التي حولته لفوضى وزيادة صناعة النفــط الصخري كانت عوامل في منع أمريكا من التدخل الســوري وظلــت جهودها في دعم المعارضة لبشار الأســد مترددة. فالنقاش الذي قاد أمريكا قبل 60 عاماً للتدخل في سوريا لم يعد قائماً.

والمفارقة أن الدوافع الأمريكية قبل نصف قرن ويزيد هي نفس ما يدفع روســيا اليوم للتدخل في سوريا ففلاديمير بوتين يريد إظهار التأثير الروســي في المنطقة والسيطرة على ممرات النفط من ســوريا والشــرق الأوســط وبحر قزوين.

والســيطرة على الممر السوري ســيعطيه القدرة على التحكم بتزويد الطاقة لأوروبا في المستقبل. ويتوقع بوتين مقابلاً من ســوريا بعد حمايته النظام فــي مجلس الأمن. ففي الوقت التي انهت فيها لحظة أمريكا بالشرق الأوسط، فلحظة روسيا على ما يبدو قد بدأت.

 ??  ?? صورتان أرشيفيتان لخط الـ « تابلاين» النفطي وفي الإطار كيم روزفلت أحد أحفاد الرئيس الأمريكي الراحل روزفلت
صورتان أرشيفيتان لخط الـ « تابلاين» النفطي وفي الإطار كيم روزفلت أحد أحفاد الرئيس الأمريكي الراحل روزفلت
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom