Al-Quds Al-Arabi

حَنِيف قُرَيْشي يُطارِدُ شكوكَ الإنسان في رواية «كأنّ شيئا لم يكن»

- تونس ـ «القدس العربي» من عبدالدائم السلامي:

أصدر الروائي والسيناريس­ت البريطاني حنيــف قُرَيْشــي، المولود ســنة 1954 لأب باكســتاني وأمّ بريطانيــة، ســبعَ روايات كانــت آخرهــا روايتــه «اللاشــيء» التي نقلتهــا إلى الفرنســية الجامعيــةُ فلورنس كاباريه ونَشــرتها مؤخّرا عن دار «بُورْجوَا» فــي باريــس بعنــوان ‪L'Air de rien‬ )ونقترح ترجمة هذا العنوان بـ«كأنّ شــيئا لم يكن».) وهي رواية مَشْــهديّة استثمر فيها حنيف قريشــي خبرته بالدراما السينمائية في اختيــار موضوعها وفي صــوغ حبكتها الفنية، ويسعى فيها إلى قراءة الجسد الآدميّ في ارتهانه إلى سُــلطة أحواله الأكثر طبيعيّة، بل والأكثر حيوانيّة، كالانتقــا­م والخيانة والخــوف من الشــيخوخة، ضمن حكاية تشابكت فيها مصائرُ ثلاثِ شخصياتٍ هي «وَالْدُو» الُمخرج السينمائي الشهير الذي أجبرته «سكتة دماغيّة» على الدخول في فترة شــيخوخةٍ إجباريّــة، وأفقدته كلَّ قدرةٍ على الحركة والكلام، وأقعدته على كرسـٍّـي متحرِّكٍ في بيتــه الفاخر في حــيّ فكتوريا في لنــدن، وزوجتُه زينب، ويناديها «زِي»، وهي الشابّة الجميلة التي عاشت معه مجدَه الفنيَّ وســافرت معه إلــى أجمل مُدن الأرض، وظلّت تُظهر له عنايتَها به وتُخفي عنه حالة من الهشاشة النفســية والإحباط العاطفيّ، وصديقُه «إيدي» الشّــابُ الَمــرِحُ الــذي كان هو قــد أوكل إليه مهمّةَ كتابة ســيرته الذّاتية.

نافذة على الدّاخِلِ

إنّ الشيخوخةَ، على حدِّ ما يصفها بطل الرواية والدو هي «طفولــة جديدة»، هي فتــرةٌ من الحياة مأســاويةٌ وجارحةٌ، تلتقي فيها رغبتَــان متناقِضتَان: رغبةُ الطّفل في تملُّك الأشــياء والأحياء من حوله، ورغبةُ الشيخ في التخلّي عن نفســه، وعن كلّ ما يصلــه بالحياة من متاعٍ وعلائقَ وأحــامٍ. وعلى حبلِ هذا التناقض تجري حكايةُ رواية قريشــي، وتجرفُ بسُــخْريةٍ لاذعةٍ كلَّ ما يعترض مَجْراها من نظاميــاتٍ اجتماعية وثقافية وعاطفيّة. ولعلّ الفــنَّ هو الســاحُ الناعِمُ الذي بقيَ ممكنا بالنســبة إلى «والــدو» ليُعيدَ به، رغــم وَهَنِ جســده، ترتيبَ فوضى العالَــم وهذيانِه من حوله، وليُخفِّفَ به من حجم الشــكّ الذي يــأكل روحَه بعد أن صــار مثل «قطعــةِ خُضارٍ في طور التحلُّلِ ومحتجزةٍ في كرسيٍّ متحرِّكٍ»، وهو ما جعل حياته تتــوزّع على زمنيْــن متداخليْن: فمن جهة هناك زمن الماضي بــكلّ مجده الفنــيّ الذي وصفه بقولــه: «كنّــا مثل الرأسماليي­ن نحصل علــى كل شــيء، ويصــل بنــا الأمر حتــى إلى ســرقة حيــاة الآخريــن ،» وتُحيلُ عليه بَكَراتُ أفلامــه، وبطاقات المجاملة الُمرسَــلة له من أشــهر الفنانين، وصــورُه مع نجوم الموسيقى والسينما علــى غــرار كلّ من «جــو ســتامر» و«دنيــس هوبر»، إضافــة إلــى صور تكريمه في مهرجان «كان» الســينمائ­ي. ومــن جهــة ثانية هناك زمن الحاضر، هــذا الزمــن الذي ليس له مســتقبل، على حدّ قول الناقدة الأدبية كريســتين ماركاندييه ضمن قراءتها لرواية قريشي نفسِــها، وهو زمنٌ لم يبق فيه من خيار أمام «والدو» سوى الاستسلام لخياله وتصوّراته، فنراه يلوذ بهاتفه المحمول، وبكرســّيه المتحرّك، ليتحوّل بجســده المقعَد إلى كاميرا متنقّلة تلتقط وتُسجّل، بارتياب ممزوج بغيرة، كل الملاحظات والمشــاهد المتصلــة بما يجــري من حوله ويخالــه هو دليلا على وجود علاقة غرامية بين زوجته زينب وكاتب سيرته الشــاب «إيدي». فهل رواية قريشي، على حدّ ما تســاءلت كريستين ماركاندييه، هي مُخَطَّطٌ ميكافيلي لامرأة تســتغل عجزَ زوجها الجســديّ لتتمكن أخيرا من الاستمتاع بالحياة؟ أم إن كل ذلك ما هو إلا خيالٌ مُضلِّلٌ يبلــغ حدودَ الجنون لمراقب هيتشــكوكي؟ إنّ الظاهر من أمر هــذه الرواية هو أن قريشــي جعلها «نافذة خَلْفية لا تدور عدستُها نحو شرفات الجيران، وإنما نحو شقته الخاصة،» وجعــل منهــا فيلــمَ «والدو» الأخيرَ، بل جعل والدو نفسَــه مُخرِجَ هذا الفيلم الذي لا نعلم مقــدار الحقيقة فيــه ولا مقدار الخيــال، ولكننا نشــاهد فيه فصول حياة والدو الشخصية، ونشــاهده، وهــو يكتفي في عيشــها بالرؤيــة والتخمــن والصمــت: «ذات ليلــة، بينما كنت مكلوما بعجزي الجسديّ ومرضي، ولم أكن محتاجا فيها لأنْ يتدهور وضعــي الصحيّ والنفســيّ أكثر ممّــا هو عليه، عــاد الضجيجُ من جديــد. أنا واثق من كونهما يمارسان الآن الحب في غرفة زينب المجاورة لغرفتي .»

مُتعةُ الشَكِّ

وإذا كان «والــدو» معاقــا جســديّا، فإنــه ليــس عاجزا تخييليّا، فقــد ظلّ متّقدَ الذّهن، ومتوهّــجَ الخيال، لا يكتفي بما يــرى، وإنّما يبحــث عن ذاك الــذي يتخفّى وراء مــا يراه، إنّه ببســاطة يخلق الشكَّ، ثمّ يعشــقه ويُصدّقه، ولعــلّ كلّ متعةِ رواية قريشــي تكمن في هذا الشــكّ الذي في ذهن بطلها والدو، شــكّه في العالَم من حوله، وشــكّه في مدى قدرتنا نحن القرّاء على تمثّل حكايته، ذلك أنّه بقدر ما ساهمت التكنولوجي­ا الذكيّة في تكشّف العالَم، زادت من منســوب الشكّ في حقائقنا، بل شــوّهت كلّ حقيقة فينا، حتى حقيقــة مدينة لندن ذاتها، حيث يراها والــدو «مدينة منهكة ومقبلــة على الانهيار، بل ســخيفة». ويبدو أنّ هذا الشكّ المشــوِّه للحقائق هو جوهر رواية قريشي: أي كيف يعيش الإنسان مع شكوكه المتزايــد­ة؟ لقد وجــد والدو طريقة للعيش مع شــكوكه، وذلك ليــس بتجاوزها وإنّمــا بتوثيقهــا، وتمكينها من كلّ الخيــال الكافــي لتصير حكاية، لا يهــمّ فيها إن كانت مُشوَّهَة أو مستفزِّة للمشاعر، ما يهمّ والدو منها أن تكون قابلة لأن تتحوّل إلى سيناريو، وأن يكون هو مُخرِجَ ذاك الســيناري­و ســينمائيا، ويكون بطلَه في الآن ذاته، وقد استعان في ذلك بمشــاهد مرئية أو مسموعة كان سجّلها في هاتفــه المحمول لحركة زوجته زينب وكاتب ســيرته الشاب إيدي، وبملاحظات عديدة حول سلوك هذا الأخير، عشــيقِ زوجته زينب المحتمَل، تكفّلت بنقلها إليه بسريّة تامّة ممثّلة كانت قد عملت معه في أفلامه. غير أنّ الشـّـك ظلّ يتنامــى في روح الُمخرِج والــدو، مانعا عنه بلوغ أيّ فهمٍ، وهو ما يحضر في قوله الســاخر: «عندما نحاول أن نفهم ما يحدث لنا، فإننا نكون دوما مخطئين؛ أســتحضِرُ خيالي، مثل ساحر، لأضع سيناريو كاملا، وفي الآن ذاته أزدرد ملعقة من مثلجات المانجو». ولمزيد زرع جذور الشكّ في الحكاية، وفي ذهــن قارئها، يعمد الراوي، والدو، إلى الدفع بزوجته زينب إلى السفر إلى باريس صحبة الشاب «إيدي»، ثم يُضيِّع «إيدي» في باريس ليزيد من قلق زينب عليه من شــكوكها فيه، ثــم إنه يُظهره فجــأة بكثير من الغموض، فإذا نحن أمام ســاحر ماهر يُجيد فنّ التلاعب بلهفتنا القرائيّة، ويعرف كيف يشدّنا إلى حكايته، بل هو لا يبلــغ بنا مبلغ تجاوز الحيرة، فــا نعرف منتهى علاقة زينب بالشــاب إيدي، هل هي علاقــة غرامية حقيقية؟ أم هي شطحة من شحطات مخرِجٍ ســينمائيّ أراد أن يُتوِّجَ مســيرتَه الســينمائ­يّة بصناعة فيلمٍ خياليٍّ يتجاوز به عجزه الجسديّ؟

يبدو أنّ كثيرا مــن جهد الرواية منصــبٌّ على تحليل شــخصية والدو، والترحّل بها من حيّزها الشخصيّ إلى حيّز الممكن العامّ لكلّ إنســان، ومن العجز الجسديّ إلى القــدرة التخييلية، ومــن حِكْمة الشــيخوخة إلى عبث الأطفال بكلّ شــيء حتى بالحميم من حياتهم الشخصية. فلا يمكن لهذا الذي يقول: «أسمع الناس الذين يتناولون الطعام فــي باريس والذين يديــرون صفحات كتاب في ســتوكهولم، والذين يمارســون الحب في روما، والذين يُغنّون في مدريد»، إلاّ أن يكون كائنا قد حرّر جســده من أقانيم مجموعته الاجتماعية ســواء ما كان منها ثقافيا أو أخلاقيا، بل حرّره من شرط الفيزيائيّة الطبيعية، ومكّنه من أن يكون جسدا رائيا لعذاب الإنسان وغموض العالَم من حوله، وراويــا لحكاية ذاك العذاب، وهو ما نميل معه إلى القول إنّ رواية قريشي إنما هي رواية الجسد الآدميّ وهو يُطارد شــكوكَه، يطاردها خارج فضــاءِ معقوليات الدنيا.

 ??  ??
 ??  ?? حنيف قريشي
حنيف قريشي

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom