Al-Quds Al-Arabi

حكيم الكتاب و«صبي الأسرار» خيري منصور... وداعا

- عمان ـ موسى إبراهيم أبو رياش:

خيَّم جو من الحزن والفجيعة على الوســط الثقافي الأردني/الفلســطين­ي والعربي، إثر إعــان نبأ رحيل الكاتــب والشــاعر خيــري منصــور مســاء الثلاثاء 18 ســبتمبر/أيلول في عمَّــان، بعد صــراع طويل مع السرطان، عن عمر 73 سنة. ونعاه المثقفون ممن عرفه أو قرأ له، ونعته المؤسســات الثقافية المختلفة. فقد كان خيري منصور ظاهــرة ثقافية مميزة، وكاتب مقالة يومية نوعية، وصاحب حضور كبير، ومتابعة واســعة، ومدرســة عالية المســتوى في فن المقالة؛ إذ لم تكن مقالته رهينة اللحظة، لاهثة وراء الأحداث، بل كانت مقالة تأصيلية، تحفر في الأعمــاق، معنية بالأســباب والجذور، لا العوارض والهوامش، فكانت شعلة من الوعي والحكمــة والمعرفة، وقهــوة صباحية لا غنى عنها، ووجبة دسمة من الفكر واللغة والذوق والأســلوب الرفيع، لا تفقد بريقهــا وقيمتها مع مرور الأيــام. ومع أنه كان يكتــب يوميًا، وأحيانًا أكثر من مقالة ولأكثر من صحيفة، إلا أن مقالاته على اختلافهــا، كانت تحافظ على مستوى راقٍ من الجودة والقوة والعمق، قلما يتأتى لكاتب.

حصل الراحل خيــري منصور على العديد من الأوســمة الفخرية والجوائــز التقديرية، منها جائزة فلســطين التقديرية التي استلمها مــن الرئيس ياســر عرفات، وجائــزة أفضل كاتب مقال عربي 2005.

وخيري منصور كاتب موســوعي، واســع المعرفــة والاطلاع، غزير الإنتاج، نشــر عددًا من المجموعات الشــعرية، منها : «غزلان الدم » 1981(،) «لا مراثي للنائــم الجميل» ،)1983( «ظلال» 1978(،) «التيه وخنجر يسرق البلاد» 1987(،) «الكتابة بالقدمين» (1992(. وله عدد من الكتب النقديــة والنثرية منها : «الكــف والمخرز » (1980( وهو دراسة في الأدب الفلســطين­ي بعد عام 1967 في الضفة والقطاع، «أبــواب ومرايا: مقالات في حداثة الشــعر» 1987(،) «فــي حداثة الشــعر: تجارب فــي القراءة» 1988() «صبي الأســرار» (1993(، ومــا زالت مقالاته الكثيرة بحاجة إلى جمع وتصنيف ونشر.

وقــد نعته وزيرة الثقافة الأردنية بســمة النســور منوهــة بأنه تميز مــن خلال منجزه الأدبــي وتحديدًا الشــعري من خلال دواوينه المختلفة التي أصدرها منذ الثمانينيـ­ـات، إضافة إلى كتاباته في الصحافة المحلية، والعربيــة. وقدمت التعازي إلى الأســرتين الصحافية والأدبيــة بوفاته. كما نعتــه وزيرة الإعــام الناطقة الرســمية باســم الحكومة الأردنية جمانــة غنيمات: خيري منصور برحيلك نفقد كاتبًا ملهمًا. إلى رحمة الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.

ونعته وزارة الثقافة الفلســطين­ية، معتبرة رحيله خســارة للثقافة الفلســطين­ية والعربيــة، وهو الذي كان وبقــي، عبــر إبداعاته، معجونًا بتراب فلســطين وقضاياها، كأحد المبدعين الكبار على المستوى العربي. وأشــارت أنه أثّــر في أجيال مــن الكتاب كمــا القراء، وحافــظ رغم صراعه مــع المرض وحتــى وفاته، على امتزاجــه بالقضية الوطنيــة، فكان مناضــلًا مواجهًا للاحتلال، ومبدعًا في آن.

وفي رحيلــه كتب الشــاعر والناقــد المغربي أحمد الشيخاوي: الموسوعي الفلسطيني خيري منصور رجل اســتثنائي قلّما يجود بمثله الزمن. عرّفتني نصوصه، بــه، لا أكثر، ويجبّ أن تتعلّم منــه منابر الزيف التي ما تلبث تنفخ في ريش الواهمين، وتخلّهم ديناصورات كلّ ما أعطته غثاء وتصدية في صفحات الزبونية الثقافية والمجاملات المكشوفة. يجب أن نتعلم من خيري منصور كيف يحترم المبــدع ذاته، ويصوغ أحلامه خارج حدود التوجيهات الرّبحية.

وعنه يقول الشــاعر العراقي علي جعفر العلاق: حــن جاءنــا الشــاعر الفلســطين­ي خيــري منصور مــن الكويت منتصف الســبعيني­ات، تلقته بغداد، كعادتها مع من يزورها أو يختار الإقامة فيها، بكــرمٍ ومحبــةٍ نادريــن. زاملنا في مجلة الأقلام سنواتٍ طويلةً، وشهد معنا نهوض بغداد وانكســارا­تها، وشاركنا عذوبتها وعذابها. وعلى نار حروبها وجمال لياليها نضجت لغته ورؤياه . خيري منصور.. وداعًا .. أما الكاتــب والإعلامي العماني ســليمان المعمري، فقــال: تعرفت علــى خيري منصــور كاتبًــا لأول مرة في التســعيني­ات، حين وقع في يــدي بالصدفة كتابه الســردي «صبي الأســرار». ذهلت حينها مــن قدرته المذهلة على المزاوجة بين ســرد الحدث واللغة الرشيقة الفاتنة القادرة على شــد القارئ للنهاية. ومنذها بدأت أبحث عن كل ما يكتبه. وبت قارئًا مدمنًا لمقالاته اليومية أو الأســبوعي­ة في الصحف العربية. لم يكن لقارئ تلك المقــالات أن يخرج بدون أن يســتفيد شــيئًا: معلومة جديدة، إحالــة إلى كاتب أو فيلســوف أو مفكر لم أكن أعرفه من قبــل، مكر لغوي يعرف كيــف يحيل الحكمة المأثــورة أو المقولة الشــائعة إلى عبــارة تبدو جديدة تمامًا، وقبل هذا وذاك كم هائل من «الإنسانية» يتسرب إليــك وأنت تقــرأ انحيازاته للخير والحــق والجمال. أظن أن خيري منصور لم يأخــذ حقه في حياته ككاتب كبير. كان شجرة في الثقافة العربية أخفتها غابة كتاب آخرين.

الكاتــب الأردني حلمي الأســمر، كتــب يقول: رحل خيــري، ورحل معه حديثنا في ليــال طويلة عن كرامة أمة، وحرية شعوب حبيســة الصدور، ولم يزل صوته الجهــوري يجلجل في رأســي وهو يهدر مــرددًا جملة لرجل سبقه في الرحيل مشــنوقًا ذات احتلال أمريكي: «شْــوَكِتْ تِهْتَزّ العُقــُـل»؟! يا خيري.. أنــا لا أبكيك، بل أبكيني، وأبكــي أمة، كل خوفي أن أمــوت قبــل أن أرى أقــدام أطفالها تدوس جبــاه من ظلمها وخانها وخذلها! الكاتبــة والأديبــة الأردنيــة زوليخة أبو ريشــة كتبت: لا أعرف كيف أودعك يــا خيري؟ كنت أظنك مؤبــدًا في حيــاة الرجــاء وحياة اللغة. فكرتك الســاخرة التي تفيض كما مــن ينبــوع.. وحديثــك العذب الأخاذ. حضورك وذهنك الوقــاد وألمعيتك من نوادر ما يجتمع في مثقف. أنت حالة فريدة حتى في خفة رحيلك. وكم هو مزعج ومحض ألم أن هذه الحياة قد خلت منك، مثلما خلت من أصدقاء رحلوا. كان خيري مــن الذين يفرحون القلــب. كان يجعل اللغــة تضحك وكذلــك خواصرنا. وله دومًــا عبارات يقولها، وكذلك أفعال، تصبح مشــهورة كأمثال سائرة. أما قدرته علــى الكتابة اليومية، فتلك قــدرة خارقة لا يملكها إلا صاحب عدة وعتاد. أما الشاعر الأردني غازي الذيبة، فكتب: أيلول يسرق حقول القمح من البيادر وها أوسطه، يسرق بذخ خيري منصور ليترك زاويته اليومية المثقفة، فارغة إلا من روحه ورياحه. سلامًا لروحه، ووداعًا للطيور القلقة.

 ??  ?? خيري منصور
خيري منصور
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom