«التمييز» ضد المليونيرات وتراث الدول العقائدية
يمكن اعتبار ادعاءات لاعبة التنس الأمريكية ســيرينا وليامز، بتعرضها للعنصرية والتمييز على أســاس الجنس، حلقة جديدة من مسلســل معاناة الأثرياء وأصحاب الملايــن من «الاضطهاد» في المجتمعات القائمة علــى «الامتياز الذكــوري الأبيض». رأينا ادعاءات مماثلــة من قبل اللاعــب الألماني ذي الأصــول التركية مســعود أوزيل، فضلا عن صــف طويل من ممثــات هوليوود، والسياســيين والإعلاميين من الشــريحة الأكثر دخلا ونفوذا من المجتمع، ما جعل هــذه الادعاءات تفقد، مع كثرة التكرار، كثيرا من فرادتها وقدرتها على الإدهاش، مهما بلغت درجة عدم معقوليتها: مَن اليوم ليس ضحية؟ يبدو أن إمكانيــة تحوّل المرء إعلاميا إلى ضحية في عصرنا ترتبط طردا بمدى ثرائه وشهرته.
المستوى الطبقي والثراء المادي لم يعد على ما يبدو في الخطاب الســائد هو ما يحدد انتساب المرء إلى فئة «محظوظة»، بل عوامل أخرى على رأسها الجنس والعرق والدين. فالمهم هو السلطة التي تصنع أكثرية مهيمنــة تضطهد الأقليات، من خــال تمييز هيكلي منظم. هذا «التمييز» يرتبط بخصائص جســدية أو ثقافية لا يمكن الفكاك منها، أكثر من ارتباطه بوضع مادي أو اجتماعي معين قابل للتغيّر.
وجهة النظر هذه عادة يتم نســبها إلــى الخطابات الأكاديمية «ما بعد الحداثية»، التي باتت منذ زمن طويل أدبيات كلاســيكية. يربط البعــض بينها وبــن الكورســات التعليميــة والإعلامية لمنظمات المجتمع المدني المنتشرة حول العالم، التي ربّت كوادر من الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، يكرزون بأيديولوجيا «الضحيــة» علــى شــكل «تريندات» عاصفــة تتكرر بشــكل دوري. لكــن ما هي بالضبط الخطابات «ما بعد الحداثية» الــذي ترتبط بها هــذه الأيديولوجيــا؟ وما مــدى مســؤولية المنظّرين الكلاســيكيين حقــا عمّــا يجــري؟ وهــل مــن الممكن أن نجــد مصــادر أخــرى للخطاب المعني بكشــف كل هذه المعانــاة التي تواجهها النخــب الميســورة فــي عصرنا؟
لا عنصرية مضادة!
تُعلّــم كثير مــن المناهج التدريبيــة لـ«مكافحــة التمييــز» المتداولة في عدد مــن المؤسســات المدنيــة والإعلاميــة، أنــه لا معنى للحديــث عــن «عنصريــة مضــادة»، فمهمــا ارتكــب المنتمــون لهويات عرقية وثقافية وجنســية غيــر محظوظة، من ممارســات وتصريحات تقوم على التمييز والفصل بين البشر، فلا يمكن اعتبار هذا عنصرية مضادة، لأن العنصرية تقوم على معادلة )تمييز + ســلطة(. وبما أن الســلطة مُحتكرة من قبــل «الامتياز الذكوري الأبيــض»، فلا يوجد إلا طرف واحد قــادر على ارتكاب العنصرية هو «الرجل الأبيض».
إلا أنه مــن الصعب أن نجد أصــا لثنائية الفاعل الســلطوي الإحادي، والضحية الكاملة هذه في أي مصدر فكري يحترم نفسه. بالنســبة لميشــيل فوكو مثلا، المتهم الأول عادة في التأسيس لهذا «الفكر»، لا يمكن تقسيم الســلطة بين طرف يملكها وطرف محروم منها تمامــا، ولا يوجد مركز وحيد للســيادة، فهي حاضرة في كل مكان، كما أنها ليســت قدرة يتمتع بها البعض دون غيرهم، بل هي وضع اســتراتيجي معقد في مجتمع معين تنتجه موازين قوى غير مســتقرة. على هذا الأســاس يبدو الحديث عن ضحايا محرومين تماما من الســلطة مثيرا لســخرية فوكو و«ضحكته الفلســفية» الشــهيرة. من المفيد هنــا التذكير بــأن فوكو المعــروف بمثليته الجنسية رفض المشــاركة في نشاطات منظمات حقوق المثليين في عصره لهذا السبب بالذات: كي «لا يقع في غرام السلطة»، بما فيها السلطة التي يملكها «الضحايا» الأبديون.
لويس ألتوســير، أســتاذ فوكو الذي يتم تحميله ولو بدرجة أقل مســؤولية هذه المهزلة الفكرية، يبدو بريئا منها بدوره، فرغم حديثة عن الســلطة الأيديولوجية التي ينتجها «الجهاز»، والتي تنشئ الذوات الخاضعة للهيمنة، فإنه لم يدّع يوما أن هذه السلطة باتجاه واحــد، بل كان على العكس منظّر الصــراع الطبقي ودور الحزب الثوري فيه، الذي يمكّن الطبقة العاملة من حيازة ســلطة مضادة وأيديولوجيــا ثورية قادرة على مواجهة ســلطة الدولة البرجوازية وأجهزتها الأيديولوجية.
حتى مفكرو مدرســة «ما بعد الكولنيالية» الأكثر ثقلا وأهمية، مثــل هومي بابا، لــم يتورطوا بهذا الشــكل المبتــذل من صناعة الضحيــة، فمن خــال تنظيرهم حــول «الهجنــة» و«الترجمة» و«الســرد»، اســتطاعوا تحقيــق فهم لا بــأس به لتعــدد أوجه الســلطة وتعقيدها. لا يبدو خطاب الضحية الســائد اليوم معنيا بالعمق والتماســك الفكري، أو مهتما حتى بمداراة فجوات المنطق الموجــودة فيه، بــل يعتمد أكثر علــى التكرار وإثــارة الضجيج والحمــات الإعلامية والاســتقواء على الأخريــن بإطلاق التهم والنعــوت، ولذلك فليس مجديا البحث عن جــذور فكرية له، فهو ليس خطابا «ما بعد حداثي» بقدر مــا يعيد إنتاج وتعميم ظاهرة هامشية وسوقية في الحداثة نفسها، وهي إعلام «الفضيحة» الذي تخصصــت به الصحف الصفراء في ما مضــى، وصار اليوم تيارا سائدا في الإعلام. منشور دعائي سوفييتي من عام 1959
ضجيج الأثرياء الفاشلين
تهتم صناعــة الضحيــة، على نمــط الصحافــة الفضائحية التقليدية، بســيَر المشــاهير والنجوم، ويمكن أن تصبح وســيلة لنيل الشهرة والنفوذ بالنسبة للفئات الوسطى المقتدرة ماديا. من الصعب أن يجد المرء اليوم «قضية تمييــز» تكون ضحيتها عاملة مصنع أو متقاعد فقير مثلا، رغم أن هذه الفئات واقعيا ومنطقيا هي الأكثر تعرضا لكل أشــكال القهر والتمييز والظلم. «ضحايا» اليوم على الأغلب يعملون في مجال الفن والإعلام والسياسة والرياضة والتكنولوجيــا وغيرها من القطاعات الأعلى دخلا، أو ناشــطون شــباب وطلاب جامعيون مــن فئات اجتماعية عليا، يســتعدون للعمل مستقبلا في هذه المجالات.
في قضية سيرينا وليامز مثلا لاحظ كثيرون التالي: يقبع الحَكَم الذي اتهمته بالعنصرية والتمييز فــي مركز أدنى منها بكثير على الســلم الاجتماعي والطبقي والإعلامي، أي أنــه أقل ثراء ونفوذا وشــهرة، باختصار هو «أضعف منها» بكثير. ومــن الواضح أنها ارادت اســتغلال نفوذهــا للهيمنة عليــه والتأثير علــى قراراته التحكيمية. من هو صاحب الســلطة هنا: المرأة السوداء الثرية أم الرجل الأبيض متوسط الحال؟
على هذا الأساس يمكن اعتبار «صناعة الضحية» سلاحا إضافيا تستعمله النخب القويــة لفــرض هيمنتهــا علــى الفئات الأضعف، وهــذا لا يقتصر علــى النخب المتحدرة مــن الأقليــات العرقيــة، لأنه من الســهل اليوم على أي أحــد أن يدعي دور الضحية، فمن هــو ليس «ملون» هو امرأة، ومن ليس أمرأة فهو مثلي جنسيا، ومن لا يحقق أي ســمة من هذه الســمات يمكنــه أن يتطرف أكثر فــي اعتناق هذه الأيديولوجيا، متهما الآخرين بمناســبة وغير مناســبة بالعنصريــة والذكورية، كمــا هو حال الجمهــور الأعرض لصناعة الضحية مــن النخــب «البيضــاء». من الملاحظ أيضــا أن هــذه الصناعة طريق ســهل لاســتعادة الأضواء في حال فشل النخب وتعثرهــا أو فقدانها لمواهبها، برز ذلك واضحا فــي حالة ســيرينا ويليامز ومســعود أوزيل بعد فشــلهما الرياضي، وفــي حالة كثيــر من ممثــات هوليوود اللواتي شُخن ولم يعدن يحظين بالفرص نفسها التي كانت متاحة لهن وهن شابات. الفشل هنا لا يقتصر على أفراد معينين من النخب، بل يمكننا الحديث عن فشل عام لـ«النخبة» في عالم يفقد اتزانه السياســي والاجتماعي حتى في أكثر دوله تطورا. فشــلٌ تداريه هذه النخب بكثير من الضجيج.
دوال فارغة المعنى
بما أن صناعة الضحية بأســلوب الصحافة الفضائحية تعمل أساسا في دوائر النجوم والمشاهير والنخب، فلا يمكننا أن نتوقع منها تحقيق تغيير فعلي في الظــروف الاجتماعية للأغلبية، حتى على مستوى مكافحة العنصرية، فالشكل الاستعراضي لـ «مكافحة التمييز» يظهر فقط في المؤسسات التي تجذب الكثير من الأضواء )مثــل هوليــوود ونيتفليكس، الفيفــا والاتحــادات الرياضية، الجامعات الشهيرة، المؤسســات الإعلامية «الليبرالية» وغيرها( أما في بقية القطاعات، التي يعمل فيها الناس العاديون، فلا شيء يختلف، والظروف تزداد صعوبة وقســوة وانعداما للأمان يوما بعد يوم.
يمكننا توقع أن القواعد التي تفرضها لجان مكافحة التمييز في مؤسســات النخبة، إلى جانب وظيفتها كمعــزز للهيمنة الطبقية، ســتظل محددة بوظيفــة رمزية، هــي إنتاج مصفوفــة كاملة من الدوال التي تؤسس لسيماء الخطاب السائد، ولكنها دوال خالية من المدلــول، لأنها لا تعبر عن واقــع فعلي بقدر مــا تُعنى بإنتاج أيديولوجيــا «الجهاز» التي تحــدث عنها ألتوســير فيما مضى. عرف العالم هذا النوع من الســيمياء الفارغة في الدول العقائدية القديمة، مثل الاتحاد الســوفييتي، أو حتى حكم البعث في سوريا والعــراق مثلا، حيث تصــدّرت المشــهد صور تعبيرية شــهيرة تؤكد عن «وحدة الشــعوب والقوميات» أو «الوحــدة الوطنية» بوصفهــا أيديولوجيا الدولة. وكانت هــذه الصور تخفي وراءها الاضطرابات والمشــاكل الاجتماعية الفعليــة. اليوم تقوم الأفلام والمسلسلات والإعلانات في الدول الغربية بهذه الوظيفة نفسها، فتحشر الهويات المختلفة في كادر واحد، بدون داع أو سياق مقنع، وذلك للتعبير عــن «التنوع». الدوال الفارغة ليســت إلا أيقونات زائفة، تحولت نســختها الاشتراكية والعالمثالثية اليوم إلى مجرد «أنتيكا». وربما ستشهد نسختها النيوليبرالية المستحدثة مصيرا ممائلا في يوم ما.