التغيير الشامل أو السقوط الشامل
هناك ثلاثة مشــاهد ممكنة في الحياة السياسية:
ـ الأول هــو بقاء الأحوال السياســية على ما هي عليه، من دون تغيير أو تجديد أو مراجعــة، عند ذاك، وكالمياه الآســنة، تمتلئ الحياة السياسية بالعفن وتفسد، ممــا يؤهلهــا لأن تتراجــع إلــى الوراء وتصبح حياة لا تطاق، تؤدي إلى الغضب والانفجارات والفوضى.
- المشــهد الثاني هو أن تجري إصلاحــات جزئية متناثرة ومتقطعة، وهذا الأســلوب يصلح للمجتمعات المستقرة وغير المهددة بأخطار خارجية أو داخلية كبرى، وبالتالي تســتطيع أن تتحرك سياســياً ببطء من دون أن يضار الوطن أو تصاب الأمة بالضعف والعلل.
- أما المشــهد الثالث فهو أن تجري تغييرات جذرية كبرى، تختصــر الأزمنــة وتلاحقها، وتقفــز فوق القضايــا الفرعية الهامشــية إلــى القضايا المفصليــة المصيرية الكبــرى. وهذا الأسلوب مطلوب عندما تواجه الأمم والمجتمعات أزمات هائلة تهدد وجودها أو استقرارها الحياتي.
لنطرح الســؤال التالي: ما نوع الوضــع الوجودي الحالي الذي تعيشــه الأمة العربية، بكل مكوناتها، ويعيشــه الوطن العربي من أقصى مغربه إلى أقصى مشــرقه؟ الجواب بالطبع هو وضــع مواجهة الأخطــار الوجودية الكبــرى، الخارجية والداخليــة، المتعاظمــة يوميا، المهــددة للأمن والاســتقلال والاقتصاد والثقافة في كل بــاد العرب، وبالتالي القادرة، إن لم تواجه وتتدارك، على شل الإرادة والتعود على الاستسلام من دون مقاومة.
إزاء هذا المشــهد المفجع، هل هناك شــك بأننا نحن العرب، جميع العرب، أمام المشهد السياســي الثالث، والحاجة الملحة لتبني الأســاليب التغييرية الجذرية الشاملة لمواجهته؟ وفي الحال، وقبل أن ندخل في أي تفاصيل دعنا نستذكر قول أحدهم من أن الرؤية المستقبلية الصحيحة من دون أن يرافقها فعل هي ليســت أكثر من حلم، وبالعكس فإن الفعــل من دون رؤية هو تمضية وإضاعة وقت، بينما تزاوج الرؤية مع الفعل يســتطيع تغيير العالم. وإذن فالتغيير الجــذري العميق يتطلب التحام النظرات الصائبة مع الفعل المستمر المتنامي. وهو يتطلب أيضاً عدم التراجع أو الحلول الوسط في معركة الاستقطاب. فالقطب المؤمن أفراده بالضرورة الوجودية المصيرية للوحدة العربية، وبالاســتقلال التام للوطن العربــي، وبالديمقراطية العادلة الأخلاقية في السياســة والاقتصاد، وبالعدالــة الاجتماعيه في توزيع الثروتين المادية والمعنويــة، وبالتجديد الحضاري والثقافي المتجه دوماً نحو سمو إنسانية الإنسان، وبضرورة وحتمية إنهاء الاستعمار الصهيوني في أرض فلسطين العربية.
هذا القطب يجب أن لا يســاوم أو يتقابل فــي المنتصف مع القطب الآخر، الــذي يصّر على انفصال واســتقلال الأجزاء، ويقبل ويبّرر الاســتقلال المنقوص، باســم ضــرورات العولمة والواقعية، ويشــكك في صلاحية المجتمعات العربية لممارسة الديمقراطية، ويجدد الاســتقطاب المخجل للثــروة في ما بين الغنــى الفاحش والفقــر المدقع، الذي تمارســه الرأســمالية العولمية المتوحشة، ويرفع شعار التعايش مع سلطات الاحتلال الصهيوني الإجرامي لفلسطين، ولا يرى في التجديد الحضاري إلا القبــول بمركزية الحضارة الغربية وقيمها ونمط عيشــها، والاحتقار لحق وإمكانية دخــول أمة العرب في قلب الحضارة الإنسانية، نقداً وتجاوزاً ومساهمة وتفاعلاً خلاقاً.
الوضــع العربي المأســاوي المريع، والجحيــم الذي يحيط بالوطــن العربي كلــه، لا يمكن الخروج منــه إلا بخوض تلك المعركة بين الاســتقطابين المتناقضين لإلحاق الهزيمة بالذين، باسم البراغماتية والواقعية الانتهازية، يرفضون إعطاء مكان للقيم والأخلاق والالتزامات العروبية في الحياة السياســية، على المستويين الوطني والقومي، ويخدمون، عن قصد أو غير قصد، الأهداف الإمبرياليــة الأمريكية والصهيونية، على وجه الخصوص، الهادفة لتفتيت الوطن العربي وتنصيب العناصر التي تخدم تلك الأهداف، والمســاعدة في نشر ودعم وتدريب جحافل القوى الإرهابيــة البربرية، اللابســة زوراً أو بهتاناً براقــع الجهاد الإســامي المتخلف، والزاحفة مــن كل أصقاع الأرض لتحــارب من أجل جعل مدن وقــرى العرب أرض يباب وموت.
القضيــة هنا واضحــة، إنها إحــداث تغيير جــذري مقنع غير متراجع فــي قيم والتزامات وأفكار ومشــاعر الإنســان العربــي، وعلــى الأخــص شــبابه، بحيث يرفــض بصورة قاطعــة كل الأيديولوجيات والممارســات والأكاذيب والذرائع والســلوكيات، التاريخية منها والمهيمنــة على الحاضر، التي ســبّبت وتســبب كوارث التخلف والضعف والانقسام وشلل الإرادة في الإنسان والأرض والمجتمعات العربية.
هذا التغيير هو من مسؤولية الملتزمين من المفكرين والكتاب والإعلاميين والفنانين وتنظيمات المجتمــع المدني، إضافة إلى مسؤولية الحكومات الواعية للمخاطر والحانية على شعوبها ومجتمعاتهــا والحاملة لنظرة مســتقبلية وطنيــة وعروبية وإنسانية.
إن ذلك سيتطلب، على ســبيل المثال، الابتعاد عن شعارات أنانية مثل مصر أو المغرب أو لبنان أو عمان أو... أو... إلخ أولاً، وسيتطلب الخجل من ممارسة مســاعدة الجزء الغني للجزء الفقير بالقطّارة والمنّة، وسيتطلب تفضيل الخير البعيد الواعد على الخير القريب المحدود الزائل، وسيتطلب اقتناع الجماهير العربيــة بأنهم جميعاً في قارب واحد، فإمــا أن يغرقوا جميعاً وإما ان يســلموا جميعاً، وســيتطلب أن تقف المرأة مع الرجل في خندق واحد، وســيتطلب أن تكون ولادة قادة الخروج من الضياع الذي نعيشــه من رحم الجماهيــر الموجوعة، إلخ من المتطلبات الكثيــرة المصيرية المتكاتفة، من دون ذلك ســنفتح عيوننا يوماً على ضابــط صهيوني يحكمنا أو مجنون أمريكي ينظّم حياتنا. من يقرأ التاريخ يعلــم جيداً أن الأزمات الكبرى في حياة الأمم لا تنقشع إلا من خلال تغييرات فكرية وسلوكية وتنظيمية كبرى تطال السياســة والاقتصاد والاجتماع، ولكن على الأخص تطال الثقافة، وهذه هي معركة الشعوب العربية الحتمية المقبلة.
التغيير الجذري العميق يتطلب التحام النظرات الصائبة مع الفعل المستمر المتنامي